رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دعوة إلى ديكتاتورية الفن !


قديمًا قال المثل الشعبي المصري العبقري : " كُلْ فُـولة .. لها كيَّال " !؛ أي أن لكل سلعة مُستهلكها الذي يدفع ثمنها راضيًا؛ بداية من اقتنائه سبائك الذهب أو ـ حتى ـ حفنات التراب، فالناس فيما يعشقون .. مذاهب ُ!

ولكن عشق هؤلاء "الناس" يختلف من بيئةٍ إلى أخرى؛ بحسب الثقافة المعرفية والذائقة الجمالية التي جُبلوا على اعتناق مفرداتها ونشأوا عليها وبين أحضانها، فكل بيئة تفرز احتياجاتها من وسائل الحياة؛ بداية من رغيف الخبز وصولاً إلى ابتداع وسائل الترف والأفراح؛ بل تضع قوانينها ـ أيضًا ـ لمراسم الأحزان والأتراح .

وتعالوا بنا لنرى ماذا فعلت الأحداث السياسية في السنوات السبع الأخيرة بهؤلاء " الناس" القابعين على الخريطة في مصرنا المحروسة، مع الأخذ في الحسبان ماذا تترك الزلازل والبراكين خلفها بعد خمود ثوراتها وفورانها، فإنها من الطبيعي ــ والمنطقي ــ أن تترك وراءها تلالاً من الركام والرماد والنفايات المحترقة، ويتضح هذا جليًا في مجال الفنون والإبداعات الشعبية التلقائية، التي يجنح معظمها ـ إلا من رحم ربي ـ إلى التمادي في التبسيط والتسطيح الذي يصل حد الإسفاف والتردي إلى قيعانٍ مهترئة لاتمت بصلة إلى واقع الفن المصري الأصيل على الإطلاق، ظنً من صانعيها أنها تخفف من وقع الصدمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولا يعلمون أنهم يزيدون "الطين بلَّة"، والمطلوب هو إنتاج الفن الجاد والحقيقي الذي يستطيع أن ينتشل تلك الجموع من الصدمات المؤقتة والطارئة التي تمر على حياة الشعوب .

لقد اتفقنا على أن كل بيئة تفرز متطلباتها واستهلاكها من شكل ولون وقيمة هذا الفن، ولكن يبدو أننا صمتنا طويلاً ـ أو صمتت الدولة ـ على منتجي هذا الفن الهزيل والقميء؛ الذي وصل به الحال إلى الظهور بالملابس الداخلية ـ أو دونها ـ لبعض مطربي ومطربات هذا العصر؛ مع ترديد الكلمات والحركات الجسدية التي تتفق وهذا الشكل الذي تخطى كل حدود العقل والمنطق والتقاليد الثابتة المتوارثة والأعراف .. والدين والأخلاق !

ولكن مايستوقفني ويثير تعجبي ودهشتي ويجعلني أتساءل : ألم ير هؤلاء كتائب الأيدي العاملة التي تشيد المشروعات العملاقة وتشق الطرق وسط الصخور الوعرة والجبال الصلدة في شمس الصيف وزمهرير الشتاء؛ لتمنح طرق التجارة والصناعة المزيد من الشرايين لتدفق الخير والنماء لجموع الشعب الكادح المتطلع إلى المستقبل المنير ؟

بلى ! ولكنه الطمع والجشع الذي يجنح بهؤلاء إلى اعتناق مبدأ "اللامبدأ " من أجل جني أو اختطاف الأرباح المالية السريعة واختطافها من أيدي طبقة أغنياء الزلازل وتوابعها؛ وهي الطبقة التي تملك "ثمن التذكرة والوجبة والسهرة .. والشيء لزوم الشيء" !؛ وهي الطبقة التي نبتت كالحشائش الشيطانية على أطراف مرحلة التجريف التي ابتليت بها مصر.. والطبيعي أن "ما تجلبه الريح تأخذه الزوابع"، دون اكتراث لقيمة وقامة وتاريخ هذا البلد العتيد الذي علَّم العالم منذ بدء الخليقة معنى الفن وأثره في إثراء الوجدان والعقل الشعبي الجمعي ! .

وعودُ على بدء .. نقول : إنه لولا وجود تلك "الفئة أو الشريحة" المستهلكة لهذا الإنتاج الهابط والمسف والمسيء؛ مااختلطت الأمور في أذهاننا؛ ولا تفرقت بنا السبل داخل مجتمعاتنا، بل المستغرب أن تلك الفُرقة أصبحت شائعة بين أفراد العائلة الواحدة في التوجه والهدف والمزاج ، فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة كما في المنطق والمباديء الاقتصادية السائدة .

لاشك أن المجتمع المصري والعربي أصبح يعاني من كثرة الأفلام والمسلسلات التي تقوم بالتركيز على جرائم القتل والسلاح والحرق والخيانة والإساءة للرموز الوطنية بطرفٍ خفي؛ مما يُفقد الأجيال الصاعدة المصداقية والتشكيك في وطنية هذه الرموز؛ وكذا التوسع في إنتاج الأغاني الهابطة كلمةً ولحنًا وحركات جسدية مصاحبة يقلدها الأطفال والشباب، ويكون هذا نتيجة طبيعية لاحتلال الزيف لعقولهم وأفكارهم .

إنني لن أفقد الأمل في استمرار المناداة بتصحيح تلك الأوضاع المدمرة لعقل المجتمع؛ بل لاأنكر ولا أمانع في استخدام ماأسميه " ديكتاتورية الفن" لتنظيف الساحة الفنية من كل الدخلاء عليها، ولا تذهب الظنون بأحدٍ إنني أجنح إلى التضييق على حرية الإبداع والتعبير ـ ولكم أن تعودوا إلي مقالاتي منذ سنوات التي تناشد المجتمع والدولة بتلك النداءات ـ بل بات الأمر مُلحًا بقوة القوانين التي تضع الملامح والأصول التي يجب أن تُتبع في حياتنا الفنية، فالفن بصفةٍ عامة إن لم يقُم بتغييرالواقع إلى الأفضل .. سنخضع ونستسلم للفلول التي تحاربنا على كل الجبهات لتمييع وأسقاط الهوية المصرية من سجلات المجتمع الدولي .. والبشرية .
علينا أن نتدارك الأمور فلقد بلغ السيل الزُّبى؛ وبلغت الروح الحلقوم !