رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشروع قومى للإصلاح الدينى


«تجديد الخطاب الدينى»، دعوة انطلقت فى الفضاءين المصرى والعربى فى العقود الأخيرة، ويُلاحظ كم المقالات وعشرات الكتب، ومئات اللقاءات التليفزيونية، والعديد من المؤتمرات والندوات فى هذا الشأن، وجاء ما يُسمى الربيع العربى ليُثبت الفشل الذريع لكل هذه الجهود، التى لم تتعد مرحلة الكلام، والتى لم تتحول إلى برنامج قومى حقيقى، وهدف للناس قبل الحكومات. ظهر ذلك جليًا فى وصول الإسلام السياسى إلى الحكم فى بعض البلدان العربية، أو ظهور موجة جديدة أكثر عنفًا للتيارات الإرهابية التى ترفع شعار الدين.
من هنا كان لا بُد من حركة مراجعة حقيقية لمسيرة ما سُمى «تجديد الخطاب الدينى» وعوامل الفشل فى هذا الاتجاه، بل وعوامل الرِّدّة فى المجتمعات العربية. فعوضًا عن الهدف المُرتجى، «تجديد الخطاب الدينى»، ازدادت مجتمعاتنا تسلُّفًا وتعلقًا بماضٍ ولّى، وازداد الانغلاق وليس التجديد.
وفى اللحظات الصعبة فى حياة الأمم تتم مراجعة التاريخ من أجل فهم جيد للحاضر، ورسم مستنير لآفاق المستقبل، والعودة إلى التاريخ توضح لنا لماذا لم تنجح دعوات تجديد الخطاب الدينى.
بداية نطرح سؤالًا عكس التيار: هل تجديد الخطاب الدينى هو ما تحتاجه أمتنا الآن.. أم أن الأوضاع فى عالمينا العربى والإسلامى قد بلغت حدًا لا تُجدى فيه أى محاولة للتجديد؟ مع بيان اختلاف رؤيتنا وفهمنا مصطلح «تجديد الخطاب»، كل حسب موقعه واتجاهه السياسى، بل ومصالحه الشخصية أحيانًا! والعودة إلى التاريخ توضح لنا لماذا أخفقنا فى مشروع التجديد.
يعتبر الأستاذ الإمام محمد عبده أول من دعا إلى إصلاح حال الأمة، والأمر المثير هنا أن الأستاذ الإمام رفع فى بداية القرن العشرين شعار «الإصلاح الدينى» وليس مجرد «تجديد». ويُعَرِّف الأستاذ الإمام مفهومه للإصلاح الدينى بأنه: «تنقية الدين الإسلامى من الشوائب التى طرأت عليه، وتقريب المسلمين من أهل التمدن الحديث، ليستفيدوا من ثمار مدنيته علميًا وصناعيًا وتجاريًا وسياسيًا».
وهكذا فإن ما نعنيه الآن بتجديد الخطاب الدينى، يعنى الجزء الثانى من الإصلاح الدينى، بينما تبقى الفريضة الغائبة أى الجزء الأول «تنقية الدين الإسلامى من الشوائب التى طرأت عليه».
الأمر الآخر أن بعضنا فهم مسألة تجديد الخطاب الدينى على أنها تجديد خطبة الجمعة فحسب! وهكذا تم اختزال الأمر كله فى مناسبة دينية، والأمر أبعد ما يكون عن ذلك، وتم أيضًا احتكار تجديد الخطاب فى فئة واحدة وهى علماء الأزهر، ومع احترامنا الشديد فإن أمر الإصلاح الدينى بما فيه تجديد الخطاب الدينى، شأن عام يشترك فيه كل فئات المجتمع ومؤسساته، كما لا تختص به وزارة الأوقاف وحدها أو حتى الأزهر، بل كل الوزارات المعنية من ثقافة وتعليم وإعلام وشباب وغيرها، بالإضافة إلى المجتمع المدنى والجامعات، هو فى نهاية الأمر مشروع قومى نحو المستقبل.
من ناحية أخرى أتمنى أن نرفع الشعار الشامل «الإصلاح الدينى» وليس «تجديد الخطاب الدينى»، ولدينا- تاريخيًا- رصيد فكرى واجتهادات فى هذا الشأن، ذكرنا منها سابقًا جهود الإمام محمد عبده، ولدينا أيضًا ما قدمه أحمد أمين صاحب «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام»؛ إذ كتب أيضًا عن «زعماء الإصلاح فى العصر الحديث»، حيث تحدث عن زعماء الإصلاح الدينى، وعلى رأسهم السيد جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده، هذا الكتاب المهم الذى للأسف لا يُطبَع الآن كثيرًا.
وشارك فى تجربة الإصلاح الدينى أيضًا غير المسلمين، إذ أصدر العلامة الشهير جرجى زيدان فى فترة مبكرة، ضمن سلسلة كتاب الهلال، كتابه الشهير «بُناة النهضة العربية»، وفيه جزء عن «رجال الإصلاح» وهم عنده: السيد جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده والسيد عبدالرحمن الكواكبى وقاسم أمين.
وهكذا كان واضحًا لدى الرعيل الأول أن مهمة الإصلاح الدينى مهمة الجميع، مسلمين ومسيحيين، علماء دين ومثقفين مدنيين.
بل وأخرج لنا العلامة الأزهرى الكبير الشيخ عبدالمتعال الصعيدى كتابه المهم «تاريخ الإصلاح فى الأزهر»، ولم يستخدم مصطلح «تجديد»، بل مصطلح ومفهوم «الإصلاح».
هل من مشروع قومى للإصلاح الدينى يستند إلى مفهوم الأستاذ الإمام محمد عبده: «تنقية الدين الإسلامى من الشوائب التى طرأت عليه، وتقريب المسلمين من أهل التمدن الحديث ليستفيدوا من ثمار مدنيته علميًا وصناعيًا وتجاريًا وسياسيًا»؟