رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنا وهؤلاء.. ذكريات حسين حمودة مع الكبار

الناقد الأدبى حسين
الناقد الأدبى حسين حمودة

على مدار مسيرته الإبداعية الطويلة، اقترب الناقد الأدبى حسين حمودة من عدد كبير من الكتاب والأدباء الراحلين والمعاصرين، كتب عنهم وعرفهم عن قرب، وأثر وتأثر بكتاباتهم وإبداعاتهم وصدقاتهم التى استمرت سنوات طويلة وأثمرت عن قصص وحكايات لم يجمعها كتاب من قبل.
فى السطور التالية، يكشف «حمودة»، لـ«الدستور»، بعضًا من كنز الذكريات، ويروى مواقف وحكايات مع عدد من الأدباء والكتاب من أمثال: نجيب محفوظ، ورضوى عاشور، وإبراهيم أصلان وغيرهم، متذكرًا رحلته مع هؤلاء على مدار سنوات طويلة.

إبراهيم أصلان:كان صديقًا لقرائه والأقرب لقلوب من عرفوه

بالإضافة إلى عذوبة كتاباته، التى تجعله صديقًا حميمًا، كان إبراهيم أصلان من أقرب الناس إلى قلوب من عرفوه وأنا منهم، وجمعتنا لقاءات ومناقشات كثيرة ومكالمات مطولة فى أماكن وأزمنة شتى.
أتذكر أننا وقفنا يومًا على حافة المحيط الأطلسى، فى مدينة الدار البيضاء بالمغرب، وكان ذلك خلال انعقاد أحد المؤتمرات فى سنوات التسعينيات، وحينها تطلّع إلى الأفق البعيد وقال لى: «يا سحس.. إحنا مش ممكن يكون عندنا كاتب كبير».
ولما سألته عن السبب قال: «الكاتب كبير هناك، وأشار بيده إلى الأفق البعيد فى الغرب»، متابعًا: «هناك ممكن يكون الكاتب عنده بيت ومكتب وقبو تحت البيت وسلّم ينزل بيه إلى القبو، إحنا فين من الكلام دا كلّه؟»، ورغم ذلك كان «أصلان» كاتبًا كبيرًا، وإن لم يكن لديه أى شىء من ذلك.


نجيب محفوظ:شيخى الأكبر والنموذج الذى لا أستطيع أن أكونه
نجيب محفوظ كان شيخى الأول والأكبر، وتأثرت به على مستويات عديدة، خاصة أنى كنت من الذين حظوا بنعمة الاقتراب منه لمدة تزيد على ١٢ عامًا. طوال هذه المدة، كنت أسأل نفسى كثيرًا: «كيف تجتمع كل هذه السمات النبيلة والمتنوعة فى إنسان واحد؟»، فقد ظل معنا- نحن أفراد مجموعة من مجموعات صداقاته- طفلًا شابًا حكيمًا.. يتحاور ويتعلم.. كأنه «تلميذ أبدىّ»، فيما كنا معه أطفالًا وشبانًا نتعلم منه ومعه.


فتحى غانم:لعبت معه مباراة شطرنج بلا رقعة.. ولم نكملها

لعبت مع الأديب فتحى غانم مباراة شطرنج بطريقة Blind أى دون رؤية، فكانت مباراة متخيّلة بلا رقعة ولا قطع شطرنج، كان ذلك فى أحد المطارات، وكنت أعرف ولعه بالشطرنج، وكنت أنا أيضًا مولعًا به فى فترة من حياتى، ووصلنا فعلًا فى هذه المباراة إلى منتصفها لكننا لم نكملها، لأنه كان يجب علينا أن ندخل الطائرة ونجلس فى مقعدين متباعدين.
فى وقت متأخر عرفت بمرضه العضال، ورأيته بعدها عدة مرات، وطالعت فى كل مرة ابتسامته المتماسكة، التى كانت بمثابة رسالة واضحة بأنه يقاوم المرض بقوة ودون يأس.
وبعد وقت عرفت أن المرض أصدر حكمه النهائى، وأنه استجاب لهذا الحكم، لكن دون هزيمة، ولعله رحل كما يبتعد لاعب الشطرنج عن الرقعة بعد دور لم يفز بنهايته، وسط سعادة من استمتع باللعبة وثقة من فاز كثيرًا فى مباريات سابقة.

رضوى عاشور: لم أبذل جهدًا كافيًا كى أعرفها أكثر
عرفتها فى أكثر من مشهد وأكثر من زمن وسياق، لكنى رغم ذلك أشعر بالأسف لأنى لم أبذل جهدًا كافيًا كى أعرفها أكثر مما عرفتها بالفعل، ولم أقترب منها أكثر مما اقتربت، ولا أظن ذلك الأسف سينقضى أبدًا.
التقيتها أثناء المشاركة بندوة ثقافية فى زمن بعيد، وأذكر أنها تحدثت أمامى عن عالم إبراهيم أصلان حديثًا صافيًا ومتدفقًا وعميقًا يليق بكتابته، وعرفتها، طالبًا وأستاذة، رغم أن الأعوام التى تفصل بين عمرينا ليست طويلة، لكنى كنت متأخرًا دائما. تكرّمت على بالمشاركة، مع أساتذتى، فى مناقشة رسالتى الجامعية، وفيما بعد جاورتها، مشاركًا ومشاركة، فى مناقشة رسالة أخرى لأحد طلاب جامعة القاهرة.
عرفتها، تقريبًا كصديق وصديقة، خلال لقاءات كثيرة جمعتنا معًا فى حضرة المبدعة الراحلة كبيرة القيمة الدكتورة لطيفة الزيات، وعرفتها عبر استجابات جميلة لمناقشة بعض رواياتها، مع بعض الطلبة والطالبات، وسعدت بآراء وردود أفعال هؤلاء وانطباعاتهم الغنية عن هذه الروايات.

أمل دنقل:أصر على تقديم واجب ضيافتى بنفسه مع مرضه
قابلته مرات غير كثيرة، لكنها كانت حافلة ببعض المشاهد، وفى كل مرة تذكرته فيها، بعد رحيله، كان يتراءى لى المشهد الأخير المؤلم، عندما زرته لأعطيه الدواء الذى نجح عبدالرحمن الأبنودى فى الوصول إليه عن طريق مسافر عائد إلى مصر، وكان وقتها فى مراحل متقدمة من مرضه، لكنه أصر على أن يتحرك بصعوبة شديدة ويصعد سلمًا حديديًا، فقط كى يأتى لى بواجب الضيافة.
والآن، بقيت حكاياته وتجربته المغامرة وبقى شعره، وبقى أيضًا الدرس الذى لم يتعمّد أن يقدّمه لأحد، ومع ذلك قدمه للجميع، درس الشاعر القادم إلى المدينة.. المتحايل على ألاعيبها.. المتطلع إلى قيم غابرة فى مكان أول قديم وفى أزمنة بعيدة، والقادر ـ رغم ذلك ـ على أن يغرس حياته وإبداعه فى قلب المكان والزمان.

الطيب صالح:ألطف شخص يمكن أن تقابله

المرات التى التقيت فيها الطيب صالح، خلال مؤتمرات ولجان تحكيم وجلسات خاصة، جعلتنى فى حضرة شخص لطفه يتجاوز أى لطف. فى أحد اللقاءات، حكت إحدى الناقدات عنه حكاية قديمة لكنها جارحة، ولم تكن تقصد أن تجرحه بل فعلت ذلك بحب، فما كان من الطيب الصالح إلا أن كان أول الضاحكين على نفسه، فضحك ضحكة صافية صادقة من القلب، وكأنها كانت تتكلم عن شخص آخر لا يعنيه فى شىء، أو لم يعد يعنيه.


علاء الديب:مكتشف الموهوبين من بين الركام

لقاءاتى مع علاء الديب كانت سريعة ومتفرقة وامتدت على عدة سنوات، وكانت أشبه بتجهيز للقاء طويل لم يتحقق أبدًا، وكنت أستعيض عن اللقاء المرتقب المؤجل بينى وبينه بإعادة قراءة رواياته الجميلة، التى لم تنل ما تستحق من عناية. كنت أيضا أقتدى بالدور الكبير، الذى قام وظل يقوم به عبر تقديمه واحتفائه بعدد كبير من الكتّاب والكاتبات من أصحاب وصاحبات المواهب، فهو إلى جانب دوره ككاتب حقيقى كان يقوم بدور نبيل آخر يتمثل فى اكتشاف الجواهر من بين الركام.

فاروق شوشة:أحب الحياة رغم المنغصات

نعمت بصحبة الشاعر فاروق شوشة وبروحه الطيبة لسنوات خلال العمل فى «قاموس الأدب العربى»، الذى كان يشرف عليه الدكتور حمدى السكوت. ولعلى كنت «قليل الذوق» جدًا مع الأستاذ فاروق، ففى الأعياد كنت أرسل له رسالة تهنئة قصيرة جدا، وكان يردّ علىّ بمكالمة طويلة يطمئن فيها على كل أحوالى، ويحدثنى عن ذكرياته ورحلاته لأماكن متعددة فى ظل عمله مذيعًا، ومنها زياراته إلى مدن قناة السويس فى أوقات صعبة حافلة بالتوتر، سابقة على الحروب أو تالية لها. وكان يروى لى كيف أنه كان مع بعض زملائه متمسكين بأسباب الحياة، وكيف كانوا يذهبون إلى السوق ويشترون بعض الطعام، ثم يذهبون لأحد الأفران الشعبية لطهيه. وفى كل ذلك، قال لى جملة لم يقلها بالكلمات أبدًا، وهى: «أنا أحببت الحياة.. رغم كل ما فيها من منغصات».

سليمان فياض:طفل ريفى طيب تقبّل نهايته بابتسام
كثيرًا ما كان يجد سليمان فياض راحة من عمله بمجلة «إبداع» عندما يأتى ليجلس معى فى مجلة «فصول»، التى كنت أعمل بها بمبنى الهيئة المصرية العامة للكتاب المطلّ على كورنيش النيل. عادة، كنت لا أتردد فى أن أكون قليل الذوق بل صفيقا أحيانًا مع بعض الزوار المثقفين، الذين يأتون للجلوس معى دون أى إحساس بقيمة الوقت، وساعتها كنت أطلب لهم مشروبًا ثم أعتذر وأنفصل عنهم وأكمل عملى. لكن الأمر كان مختلفًا مع «فياض»، فقد كنت أزيح العمل جانبًا، وأتفرّغ له وأقول لنفسى: «كمّل شغلك بعدين.. حتى لو سهرت هنا للصبح»، فقد كان طفلًا ريفيًا طيبًا فى حديثه عن إنجازات صغيرة فى حياته، كان يحدثنى عنها ليثير دهشتى، وكانت كلها بعيدة غالبًا عن إنجازه الأهم، المتمثّل طبعًا فى كتاباته.




رجاء النقاش:خلفنى فى العمل بمكتب «اليوم» السعودية

عرفت رجاء النقاش مئات المرات عبر ما كتب، وعشرات المرات عندما كانت تأتى سيرته العطرة مع الأستاذ نجيب محفوظ، لكنى لم أقابله سوى مرة واحدة فى حياته.
كنت وقتها قد قدمت استقالتى من العمل بجريدة «اليوم» السعودية، حيث كنت أعمل مراسلًا ومشرفًا على التحرير بمكتب هذه الجريدة بالقاهرة لعدة سنوات، ووافق هو على أن يتولى إدارة التحرير بهذا المكتب، وفى يوم ما اتصلوا بى وقالوا: «الأستاذ رجاء يريد مقابلتك لأمر مهم وضرورى جدًا». ذهبت لمقابلته فاستقبلنى بترحاب ولطف وطلب لى قهوة، وأخبرنى بأن الأمر المهم والضرورى هو مجرد سؤال، وقال: «إنت ليه سبت الشغل هنا مع إنك كنت ناجح جدا زى ما شفت فى الأرشيف الخاص بيك وزى ما أنا شايف فى شهادة الجميع عنك؟». قلت له الحقيقة وهى أنى أعمل على رسالة أكاديمية عن يحيى الطاهر عبدالله وأنى تأخرت فيها كثيرًا حتى أصبحت أخاف اللقاء بأساتذتى لعدم تلقى اللوم والتأنيب، لحظتها ارتاحت، أكثر، ملامحه المبتسمة الطيبة دائمًا، وقال لى: «دا سبب مقنع جدًا أتمنى لك التوفيق»، ثم أضاف: «لو حبّيت تستريح من شغل الرسالة وتكتب حاجة للجريدة ياريت تبعتها مع أى حدّ»، فشكرته وشربت قهوتى وخرجت.