رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ورد النيل

جريدة الدستور




هنا كل يوم أتأمل النيل الهامد، يلمحنى ورده فيُقبل علىّ فرحًا، أراقب العابرين والجالسين، السيارات الغريبة والمراكب الفقيرة، أراقب الكون.. أسند ظهرى للسور القريب من الأرض، أو أحاول احتضانه تحت إبطىّ لأرى اتجاهًا واحدًا محددًا.
ولم يكن نفير انصرافى سوى الشمس تخبطنى على قفاى لسعًا حادًا، فألملم نظراتى، ثم أكوّمها فتتجه نحو المرأة صاحبة الوجه الرائق، بلا إرادة منى، كانت تملأ كيسها الشفاف القوى، مدسوس نصف جسدها فى الصندوق المترب، تتحسس أحشاءه بيدين طويلتين، ثم تضع بحذر كفّها بما التقط داخل الكيس الضخم.
كوّرتْ قطعة قماش سوداء مغبرة باهتة، طبطبت عليها فوق رأسها، ثم أشارت لى باسمة، فأرسلت عينىّ نحو النيل المرتجف، لكنها أحكمت ربط كيسها الضخم ثم أشارت لى ثانية، فمشيت وئيدًا بحذاء يئز، رفعتُ الكيس ناظرًا إليها، فقالت: «أنادى لك من ساعة، إنت واقف من زمان»، وعدّلت كيسها فوق قماشتها المتربة، بلا إجابة تنتظرها منى، ثم رمت بقدمها للأمام، ربما كان جلبابها أزرق ثم صار بنيًا أو شيئًا كالبنى، حين ارتمت عيناى خلف حذائها البلاستيكى الأحمر، تراجعت بظهرى ساندًا إياه على السور القزم، لملمت عينىّ من حول صندوق القمامة الذى كان يودعها فى رزانة مفتعلة.. مشيت بهدوء نحو عرض الشارع، تسمرتُ فى انتظار سيارة تذهب بى بعيدًا، لكنها ابتسمت، فوجدت وجهها- الذى طالما رأيته رائقًا- متجعدًا كصباحاتى، بعينين زرقاوين حادتين، وشفتين رفيعتين، كانت تلمحنى.. البنايات الزاحفة لم تعد تخيف بقايا النيل، اعتاد اقترابها منه خلال ثلثى عمرى الأخيرين، بينما اقتربتُ ثانية من العجوز بثغر مفتوح وقلب ضاحك، فأحاطتنى عيناها.
حين رأيت الجرافات تزيل ورد النيل بطول المصرف، كانت قابضة على ذيل ثوبها ببقايا أسنان، تركع خلف الجرافات، ثم تأخذ الورد المنتزع لتضعه فى كيسها البلاستيكى، كانت تعيده للنيل مرة أخرى، لكن رماح الحديد وقوالب الطوب الأسمنتى قد انتشت فابتلعتها فى روية.