رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الـ«سيسيا» واحتياجنا إليها


«سيسيا» كلمة قبطية معناها «ذبيحة» أو «تضحية». ومن الرائع أنى كنت- منذ بضعة أسابيع- فى زيارة لأحد أديرة الراهبات بمنطقة مصر القديمة، ورأيت أنه من بين الراهبات الصغيرات اللواتى قُدمن للرهبنة الصادقة من صعيد مصر وهى ابنة كاهن مبارك ببلدته، وبعد فترة من الاختبار أخذت تلك الراهبة الصغيرة اسم «سيسيا»، وهى تخدم زوار الدير ببشاشة وجه وحب حقيقى وتضحية وطاعة كاملة لأمهات الرهبنة.
أخذت أفكر فى الاسم المبارك وكيف أن له دورًا مهمًا فى مواجهة تدهور كرسى أسقفية الإسكندرية!! ذلك الكرسى الذى بزغ صيته وأهميته فى القرن الرابع الميلادى باجتماع مجمع نيقية المسكونى عام ٣٢٥م وكان أسقف الإسكندرية يرأس جلسات المجمع.
كما أن الـ٣١٨ أسقفًا الذين كانوا مجتمعين فى ذلك الوقت أسندوا إلى أسقف الإسكندرية دورًا مهمًا فى تحديد موعد الاحتفال بعيد القيامة «عيد الفصح» بعد الفصح اليهودى، كما ورد فى الكتاب المقدس. كما أنه فى المجامع التالية، مجمع القسطنطينية الذى حضره ١٥٠ أسقف، ومجمع أفسس الذى حضره ٢٠٠ أسقف، كان لأسقف الإسكندرية الصوت الأعلى والرأى السديد والمشورة الصالحة. ماذا حدث بعد ذلك؟ من هنا كان ينبغى أن يعد الله من أبناء الكنيسة المخلصين من ينادون بأهمية إعادة الدور الحيوى لأسقف الإسكندرية، وهؤلاء ينبغى أن يعيشوا فى الـ«سيسيا» بلا خوف. فقد ورد فى سفر الحكيم «يشوع بن سيراخ»: (يَا بُنَيَّ، إِنْ أَقْبَلْتَ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ الإِلهِ، فَاثْبُتْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَعْدِدْ نَفْسَكَ لِلتَّجْرِبَةِ. أَرْشِدْ قَلْبَكَ وَاحْتَمِلْ. أَمِلْ أُذُنَكَ وَاقْبَلْ أَقْوَالَ الْعَقْلِ. وَلاَ تَعْجَلْ وَقْتَ النَّوَائِبِ. اِنْتَظِرْ بِصَبْرٍ مَا تَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ، لاَزِمْهُ وَلاَ تَرْتَدِدْ، لِكَيْ تَزْدَادَ حَيَاةً فِى أَوَاخِرِكَ، مَهْمَا نَابَكَ فَاقْبَلْهُ. وَكُنْ صَابِرًا عَلَى صُرُوفِ اتِّضَاعِكَ، فَإِن الذَّهَبَ يُمَحَّصُ فِى النَّارِ، وَالْمَرْضِيِّينَ مِنَ النَّاسِ يُمَحَّصُونَ فِى أَتُونِ الاِتِّضَاعِ. آمِنْ بِهِ فَيَنْصُرَكَ، قَوِّمْ طُرُقَكَ وَأَمِّلْهُ. احْفَظْ مَخَافَتَهُ، وَابْقَ عَلَيْهَا فِى شَيْخُوخَتِكَ. أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِلرَّبِّ، انْتَظِرُوا رَحْمَتَهُ، وَلاَ تَحِيدُوا لِئَلاَّ تَسْقُطُوا. أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِلرَّبِّ، آمِنُوا بِهِ؛ فَلاَ يَضِيعَ أَجْرُكُمْ، أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ لِلرَّبِّ، أَمِّلُوا الْخَيْرَاتِ وَالسُّرُورَ الأَبَدِيَّ وَالرَّحْمَةَ).
عادة يبدأ أقباط مصر فترة صوم الميلاد يوم ٢٥ أو ٢٦ نوفمبر لمدة ٤٣ يومًا ينتهى بعيد الميلاد المجيد فى ٧ يناير. وكلما تقترب فترة عيد الميلاد وأيضًا فترة عيد الفصح «القيامة»، ينتاب المخلصون للكنيسة الخوف من خطر تفكك الكنيسة القبطية وتغيُّر هويتها بسبب الأصوات- غير المسئولة من المحدثين الجدد- التى ترتفع بضرورة تغيير موعد عيد الميلاد الذى نحتفل به نحن الشرقيين منذ قديم الأزمان فى ٢٩ كيهك «الذى يقع حاليًا فى ٧ يناير» وهو التقويم الشرقى، ويريدون تغيير موعد الاحتفال لنحتفل به مع الغربيين فى ٢٥ ديسمبر!! ثم الطامة الكبرى فى تثبيت موعد عيد القيامة- مع الغربيين أيضًا وبالأخص مع كنيسة روما!!- مخالفين بذلك قوانين مجمع نيقية فى القرن الرابع الميلادى والحساب الدقيق لتحديد موعد العيد الذى وضعه آباء كنيسة الإسكندرية فى العصور الأولى منقادين بروح الله لتقواهم الشديدة وطاعتهم لقوانين الكنيسة. مما حدا بالمطران نقولا، مطران طنطا وتوابعها للروم الأرثوذكس أن يصرخ- بحرقة قلب- ويقول: «إن طرح أمثال هذين الموضوعين هو خارج الإيمان الواحد المستقيم والعقائد الإلهية الواحدة، بل إن هذا التفكير هو فكر بشرى عاطفى حفاظًا على صورة الكنيسة من الخارج!! وهم لا يعلمون أن الاختلاف فى الأعياد هو نتيجة اختلاف التقويم الشرقى عن الغربى» ثم أضاف قائلًا: «رأينا أن نوضح هذا حتى لا تكون المطالبة بعيد القيامة أو عيد الميلاد قائمة على أهواء إنسانية واتفاقيات بشرية لا تفيد شيئًا دون نعمة الله». كذلك يقول كاهن آخر وهو الأب أثناسيوس حنين: «أصلًا كان من كهنة الكنيسة القبطية الذين كانوا يخدمون فى أثينا باليونان وتم إبعاده عن الكنيسة بسبب تمسكه بتعاليم العلّامة الكنسى أوريجانوس الذى يُعد من أعظم معلمى المسكونة، وهو حاليًا كاهن بمطرانية بيرية اليونانية باليونان»، وهنا يقول: «الحل الواقعى لهذه المأساة المسكونية هو التوقف عن كل هذه التمثيليات التى لا طائل من ورائها والبحث عن طرق لاكتشاف الإيمان الواحد والكنيسة الواحدة فى المسكونة الواحدة، تلك المسكونة التى تتمزق وتئن ومنتظرة ومترجية ظهور خدام الله الحقيقيين ولاهوتية الأصلاء». وأذكر أنه فى لقاءاتى المتعددة مع الرهبان القبارصة بمدينة لارناكا، وجدت أنهم يرفضون تمامًا مبدأ تغيير موعد عيد القيامة بعيدًا عما سبق، وحدده بكل وضوح مجمع نيقية عام ٣٢٥م. أذكر أنه فى نحو عام ١٩٦٣ أن أسند البابا كيرلس السادس البطريرك الـ١١٦ إلى وكيل عام البطريركية بالقاهرة القمص ميخائيل عبدالمسيح مسئولية نشر بيان بطريركى بجريدة «وطنى». فتحت عنوان «لا تغيير فى التقويم القبطى» جاء فى البيان المنشور بالصفحة الأولى ما يلى: «بمناسبة ما تردد فى بعض الصحف والمجلات عن التقويم القبطى طلب قداسة البابا كيرلس السادس أن أعلن فى هذا الشأن التمسك بقرار المجمع المقدس الصادر بتاريخ ٥ مارس سنة ١٩٦٠ ونصه (أنه قطعًا للإشاعات وبلبلة الألسن يقرر المجمع المقدس أن الكنيسة القبطية المستقيمة الرأى محتفظة بتراثها الخالد القويم وهى أمينة على ما تسلمته من الآباء القديسين السابقين ومحافظة على ما قررته المجامع المقدسة، ولهذا فإن تواريخ الأعياد وتقويمها هى كما هى بترتيبها الزمنى، كما وضعه آباء الكنيسة الأولون دون تغيير أو تبديل أو مساس به).. توقيع القمص ميخائيل عبد المسيح».
أتذكر فى عام ١٩٦٩ أن أصدر الفاتيكان «وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح» وللأسف كان الدافع وراء إصدار تلك الوثيقة المشئومة دافعًا سياسيًا بحتًا. لكن كان على رأس الكنيسة القبطية بطريرك تقى وشجاع وناسك وملتزم بتعاليم الكنيسة دون أدنى مجاملات، هو البابا كيرلس السادس «١٩٥٩ -١٩٧١» البطريرك الـ١١٦ وكان معه مجمع مقدس قوى يضم مجموعة من علماء الكنيسة الأفاضل، بالإضافة إلى مجلس ملى سكندرى قوى يضم مجموعة من المستشارين والمحامين وأساتذة الجامعات ذوى معرفة حقيقية، وكان جميعهم يعملون بروح الفريق الواحد تحت القيادة الروحية للبابا كيرلس السادس. فصدر عن كنيسة الإسكندرية بيان يدحض تلك الوثيقة المشئومة وأرسلوها للفاتيكان وبقية كنائس العالم. ولما كانت كنيسة الإسكندرية لها مكانتها المتقدمة على بقية كنائس العالم بسبب تاريخ وأيضًا قوة شخصية بطاركتها الأتقياء، فقام الفاتيكان بسحب وثيقته هذه. وبذلك أنقذت كنيسة الإسكندرية العالم كله من تلك الوثيقة الخادعة والكاذبة.
أرجو من الذين ينخرون فى جسم الكنيسة من أساقفة وكهنة أن يتوقفوا عن مساعيهم الفاشلة التى ستؤدى حتمًا- لا سمح الله- إلى تفكك الكنيسة وتغيُّر هويتها، وبذلك لن نترك لأولادنا وأحفادنا كنيسة قوية كما تسلمناها من الآباء الأولين. فلتكن لدينا اليقظة الكافية لمواجهة تلك الأفكار المُدمرة لنحافظ على كنيستنا متماسكة وقوية وقائدة للكنائس الأخرى.