رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

راكوتيس

جريدة الدستور



تتكثَّف السُّحب فى السماء مُلوِّحة لى وأنا أنظر إليها متسائلًا، هل هذه الغيمات التى آنسَتْ وحدتى تهيِّئ المطر لعُرس تحتفل به الأرض مودِّعة الشتاء؟! أم إنَّها ترافقنى السَّير فى طريقى كحارس خاصٍّ تُدَغْدِغ الدَّرب أمامى بظلِّها الحاجب لخيوط الشمس المجاهدة للسُّطوع؟! هل تعرف أنَّ السماء ساحتى الشاسعة للتحليق حينما أشاء وفى أى وقت؟! كم أهوى النظر إليها كلَّ حينٍ! أتمنَّى أنْ ينقلب الكون رأسًا على عقب؛ ليكون الطريقُ فى السماء والقمر والنجوم رفقاءَ الدَّرب، ولا أعلم هل حُبِّى للسماء اختيار أم هو قدرى المرسوم بحبكة درامية صِيغت بمفردات استثنائية لسجلٍ خاص بحياتى، من دون البشر؟!
الطريق لم يتغيَّر كلُّ شىء يسير كما هو؛ مَحاُّل الأقمشة المصطفَّة بمحازاة المقابر، النهار بضجَّته، الباعة على الرصيف ببضائعهم المسجاة عليه تَسُرُّ الناظرين، أشجار الطريق، وجوه الناس، لكنَّ كلَّ شىء مختلف؛ نوع من الرضا مرسوم على كل ما أقابله، شىء من السعادة تنبض به الوجوه، الكُلُّ ينتظرنى؛ الأشجار والمعبد، الحجارة والبيوت البسيطة؛ وها أنا عُدْتُ يا قدس الأقداس، عُدْتُ فى موعدى لأقدِّم ولائى لكاهن المعبد، راكوتيس لن تفقدى إلهكِ سيرابيس، ولن تفقدى معبدكِ ومجدكِ المصنوع على يد من هُمْ مثلى من مُحِّبيكِ مدينتى، ها هو عمود السَّوارى يقف أمامى يستعدُّ لاستقبالى، يتنفَّسُ الصُّعداء لوصولى فى الموعد، لن يرضَى أبوالهول الرابض بجانبه يحرس المعبد عن عدم احترام الموعد؛ لذا حضرتُ بمجرد إرسال الكاهن الأعظم أحد خادمى المعبد من اليهود. يجهل الكاهن الأكبر عدم إيمانى باليهودية، أنا مصرى فرعونى أُقَدِّس إيزيس قبل كل شىء.
آهٍ، ها أنا قد وصلتُ، وعلى باب المعبد أقف.
• لدىَّ موعدٌ مع الكاهن الأعظم.
• أين الصك المختوم؟
الحارس الضخم حليق الرأس يرمقنى بنظرة متفحِّصة منتظرًا دليل إدانتى؛ ليطير رأسى بسيفه المسنون.
• تفضّل!
أزيز الأبواب يصمُّ الآذان، والرهبة بباطنى تغافلنى وتطفو على وجهى تُحيطنى كَهَالَةٍ، ثم تتكَوَّر مرابضة بين عَينىَّ وعلى جبهتى، والعديد من الأسئلة تحِّوم حول رأسى كالغربان؛ هل تنتظر حتفى كى تنهشنى مناقيرها؟! يا إلهى! ماذا يريد منى الكاهن؟! ألَا يكفى ما قَدَّمتُه للمعبد والآلهة الثالوثية من بطولات؟! هل انتظارى لمقابلة الحاكم أمام هذا الباب الذهبى الضخم سيطول؟!
فُتِح الباب، وما زالت الرهبة تتملَّكنى كحيَّة رقطاء تلتفُ حول جسدى المنتفِض وتعتصرنى، أشعر بِسُمِّها يسرِى فى جسدى عَبْر أنياب الوقت.
يجب أن أنحنى احترامًا للكاهن الواقف بجانب الإله سيرابيس:
• سيدى الكاهن، أرسلتَ فى طلبى؟
• أجل، أرسلت فى طلبك؛ هناك رسالة مقدسة يجب أن تصل لبطليموس شخصيًّا.
• السمع والطاعة سيدى.
• خذ حذرك؛ فالأعداء مرابضون حول راكوتيس، والبصَّاصة يرقبون كل شىء. الرسالة يجب أن تصلَ لبطليموس، راكوتيس أمانة بين يديك!
• حاضر سيدى، عهدى وولائى لراكوتيس.
قدَّمْتُ اعتذارات لكثير من البشر والأشياء اليوم! حتى عجل أبيس قدمْتُ له اعتذارى لمجيئى بِزِىّ شعبى.
أعلم إلى أين أذهب الآن؟ لكنَّنى غالبًا لا أتذكر من أين أتيت؟! من أين جئْتُ؟! أترانى فقدت الذاكرة؟! لا أعتقد؛ فها أنا فى طريقى إلى البيت كى أودِّع أهله بعد غيبة طويلة خوفًا من البصَّاصة والجواسيس.
أتذكَّره جيِّدًا كما تذكرت موعدَ الكاهن، وأبا الهول، ومكان المعبد؛ فكيف أكون قد فقدت الذاكرة، لكنَّ الشىء الوحيد الذى انمَحَى تمامًا من ذاكرتى مكانُ وجودى عند وصول خادم المعبد، لا أتذكره! وها هو البيت العتيق غارق فى الحزن؛ لرحيل الإسكندر الأكبر من قبل أن يرَى روعة تصميمه الذى خرج من حيِّز التخطيط، كان لا بُدَّ أن يرى مدينته العظيمة مُزْدانة بالجمال قبل أنْ يرحل، ها هى الجارة تصرخ على باب الدار كعادتها كى يعود طفلها من الشارع، وتَنْفَضُّ مباراة الكرة المصنوعة من بقايا القماش الملوَّن، وها هى الدَّرَجات البسيطة المتهالكة، وها هو باب الدار، لكنَّ أحدًا لا يسمع طَرْقِى على الباب الموَارِب، لِمَ لا أدخل مباشرة؟!
ها أنا داخل البيت، كلُّ شىء مكانه؛ حُجرتى التى يشاركنى فيها أخى سالم، أين هو؟! وأين أُمِّى؟! ما لى لا أرَى أحدًا فى البيت؟! النافذة مفتوحة يدخل منها بصيصٌ من نور، أرى سَمَا حبيبتى تَطلُّ برأسُها من النافذة الضيِّقة.
• وحشتينى يا سَمَا، التفتى إلىَّ! أرجوكِ انظرى نحوى! ها أنا عدت، صحيح أنا لا أعلم: من أين أتيتُ؟! لكنَّنى أقف أمامكِ حبيبتى، ما لكِ تنظرين فى كل اتجاه إلا اتجاه نافذتى؟! عيناكِ مُثَبّتة على الطريق كالمسمار فى اللوح الخشبى! مَن تنتظرين غاليتى؟! ها أنا عُدْتُ، وأتُوق لرؤية عينيكِ اللَّتين لم تَغِبَا عنِّى كبريق الضوء فى سراجٍ أحمله فى كل الأمكنة التى لا أعرف هويَّتها، فَقَدْتُ الأمكنة يا سَمَا إلا مكانك حبيبتى، جئت لأجلكِ، صحيح كان همِّى فى المقام الأول واجبى نحو سيرابيس، أمَّا راقودة فهى وطنى، أفديها بدمى، وتهون روحى من أجلها؛ لا يحق لك الغيرة منهما؛ أنتِ حاضر وأطفال كُنَّا نحلم بإنجابهم عندما نتزوج، أنتِ أمَل متعلِّق فى رقبتى كتميمة مباركة من الآلهة إيزيس وابنها حاربوقراط، أنتِ عالم آخَر آوِى إليه؛ ليعصمنى من الخوف، أى خوفٍ، لا أتذكَّر. سَمَا، سَمَا، ألَا تسمعيننى؟! ها هى قطعة صغيرة من جرانيت المعبد أقذفها على زجاج نافذتكِ الملوَّن المعشَّق بألوان الطيف المتوهِّجة يا شقيَّة! وثانية! وثالثة! هل أقذف النافذة بعِجْل أبيس ذاته؛ ليحدث صوتًا أعلى من ذلك؟! المارَّة فى الطريق يسمعون ندائى يا صغيرتى! ما لكِ لا تتنبهين؟! ما لكِ لا تنظرين؟! أشعر بالتعب يا سَمَا، سأستلقى على السرير قليلًا وأعيُد الكَرَّة بعد غفوةٍ صغيرة. كم تَتُوقُ أهدابى إلى عناق بعضها! ومُقَلِى إلى الاسترخاء!
ما هذه الضوضاء حولى؟! أظُنُّنى ما غفوت إلا برهة! أين أنا؟! ما هذه الأطياف البيضاء خلف غمامة من زجاج تَــمُرُ من أمامى؟! إنَّها تُهَرْوِل فى كل اتجاه! ما هذه الأَسِرَّة المصْطَفَّة بجانب سريرى كخيوط آلة الهَارْب الجميلة المنسَّقة؟! لا أسمع صوت الهارْب الشجى، أسمع نغمات أكثر حزنًا، يا إلهى! صوت بكاء أمِّى يأتى من بعيد كأنَّه قادم من بئر عميقة، أتبين أصواتًا متداخلة لأبى وسالم أخى، تقترب الأطياف الشفافة من سريرى، تنقشع الغيمة التى تحجبها عنِّى، أسمعهم جيِّدًا الآن.
• لقد عاد!
• أجل، عاد!
عدت من أين؟! ومن أين أتيت؟! وأين أنا الآن؟! ولمن هذه الأطياف؟!
الفصل الأول من رواية.. الذى عاد إلى هناك