رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"الأسطى".. تحية صلاح حافظ تروى مشاهد مجهولة من حياة والدها لأول مرة

جريدة الدستور

كانت رحلة الوصول إلى تحية صلاح حافظ مغامرة ينطبق عليها المثل الشعبى الدارج «البحث عن إبرة فى كوم قش»، فكلما تلمست طريقًا يُقربنى إليها، فوجئت فى النهاية بأنه ليس أكثر من مجرد سراب، لا أجد فى منتهاه شيئًا.

فى لحظة ما تملكنى اليأس، لكنى لم أحسم حينها أمرى بالاستسلام له، عاودت من جديد رحلة التحرى، إلى أن جاء الوقت المعلوم، ونجحت فى الاتصال بها، على الفور عرضت عليها إجراء حوار صحفى عن والدها «سلطان الصحافة المصرية»، فرحبت بشدة، لكنها اشترطت أن يتم الحديث من وراء حجاب.

صممت هى أن يكون اللقاء عبر الهاتف وليس مقابلة وجهًا لوجه، وكان منطقها فى ذلك عائدًا إلى أنها منذ قررت اعتزال العمل الفنى اختارت الحياة فى عزلة اختيارية، لا تقابل أحدًا إلا فيما ندر، فهى- حسب كلامها- تجلس حاليًا بمفردها تناجى ربها وتقيم صلواتها، مستعينة بالقرآن كرفيق يؤنس وحدتها، وهو ما دفعنى فى النهاية مضطرًا للموافقة على طلبها.

عن «الحب والغضب» فى حياة «سيد المقال» صلاح حافظ يدور حوار «الدستور» مع ابنته «تحية»، فالمايسترو الراحل أحد القلائل الذين كُتب لهم الخلود داخل بلاط صاحبة الجلالة، ولِمَ لا؟، وهو الذى تحقق لشخصه ما يشبه الإجماع حين قالوا عنه إنه «سلطان الصحافة المصرية والعربية الأعظم».

مقالاته ساعدت فى إنجاح ثورة يوليو ثم حبسه عبدالناصر.. وتحية كاريوكا أخفته وقت هروبه


لا يمكن أن أتحدث عن سيرة صلاح حافظ دون الإشارة إلى الجد، بعدما لعبت قراراته التى نفذها أبى، طوعًا أو جبرًا، دور البطولة فى ملحمته مع عالم الصحافة ومجتمع السياسة.
جدى كان ينتمى لعائلة عريقة تعود أصولها إلى محافظة الفيوم، وكان يتمتع بقدر كبير من العلم والمعرفة، انعكست ظلاله على ابنه «صلاح»، وجعلته ينشأ محبًا للقراءة ومفتونًا بالأدب، فلمح والده نبوغه المبكر، فحلم بأن يصبح الابن طبيبًا.
لكن خلافًا لرؤية والده، صاغ أبى حلمه بأن يكون كاتب الغد وأديب المستقبل، لكنه فى النهاية استسلم لرغبات أبيه والتحق بكلية الطب.
بمجرد نزوله القاهرة، لم يهدر كثيرًا من وقته، وسرعان ما بدأ فى مخاطبة الصحف، وجذبت كتاباته أنظار أهل مجلة «روزاليوسف»، إذ فتنوا بسبب روعتها، فتم تعيينه محررًا بالجريدة، ومن هنا جمع بين الحُسنَيين، دراسة الطب وممارسة العمل الصحفى، واستطاع أن يجنى من الأموال ما يعينه على الحياة فى القاهرة.
داخل جدران كلية الطب تعرف صلاح حافظ على صديق عمره الروائى الكبير يوسف إدريس، وتوطدت علاقتهما، وبدأ أبى يقترب من تيار اليسار، ثم التحق بالحركة الشيوعية «حدتو».
كانت لأبى، قبل ثورة يوليو، مجموعة من المقالات اللاذعة الناقمة على سياسات الملك فاروق والناقدة لفساد القصر، أسهمت فى إنجاح حركة الضباط الأحرار فى يوليو ١٩٥٢، وتلك شهادة أكدها كثيرون من قادة الثورة، وعلى رأسهم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. ومع ذلك لم يدم الوفاق طويلًا بين جمال عبدالناصر وحركة «حدتو»، فاتخذ قراره بسجن جميع أعضائها، وفى مقدمتهم والدى وزوجته الفنانة هدى زكى، ووقتها هرب الاثنان واختبآ ببيت الفنانة الراحلة تحية كاريوكا.
فى تلك الآونة، كانت تحية كاريوكا متزوجة من أحد الضباط، فكان أبى وأمى فى مأمن كبير من لدغات «عبدالناصر» ورجاله، ولكن والدتى كانت حبلى فى هذا الوقت، فاضطرت لمغادرة منزل «تحية» وذهبت إلى أحد المستشفيات لتضع مولودها أنا وحتى لا ينكشف أمرهما اضطر والدى للهرب، وذهب للاختباء ببيت أحد معارفه، وكان يوسف إدريس هو من يتولى توصيل المراسلات بين أبى وأمى آنذاك.
وحين علم صلاح حافظ أن زوجته وضعت بنتًا أبلغ «إدريس» بأن يخبر زوجته بأن تسمينى «تحية»، كنوع من العرفان بجميل تحية كاريوكا، وعندها علق «إدريس» قائلًا: «تحية لتحية».
بعد فترة وجيزة أُلقى القبض على والدى، وتم تقديمه للمحاكمة، وفى أثناء جلسة النطق بالحكم حدثت مشادة كلامية بين أبى والقاضى، إذ قال له أبى بلهجة حادة: «طلع قرار الحكم بالسجن من جيبك»، وعندها تم رفع الجلسة للمداولة، وبعد لحظات تم الحكم بسجنه ٨ سنوات.
وقتها سأل بعض الأدباء والسياسيين «عبدالناصر»: «كيف تسجن من كانت كتاباته أحد أسباب نجاح الثورة؟»، فأجابهم: «ابنى وبربيه».
خلال فترة الحبس لم يبتعد أبى كثيرًا عن «صاحبة الجلالة»، إذ صنع فى محبسه مجلة حائط، وكان يكتب من خلالها كل ما يجول فى خاطره، إضافة لكتابة بعض الأعمال الأدبية، ثم درس الفرنسية وتعلمها «زى ما الكتاب بيقول».
لكن النقطة الأكثر أهمية خلال فترة السجن الصعبة تكمن فى أنه عاود تقليب الأفكار والمعتقدات السياسية التى اعتنقها سابقًا، فقرر الانقلاب على آراء تيار اليسار بأكمله، حتى حركة «حدتو» التى ارتمى فى أحضانها سابقًا، فقد كان دائم الانتقاد لها بحدة مشفوعة بحرفة «الصنايعى» المدرك لما يقول والمؤمن بما يكتب، وعندها خرجت العبارة الشهيرة «صلاح حافظ يسارى مش دموى». وبالرغم مما فعله نظام «عبدالناصر» بأبى، إلا أنه لم يحمل له أى ضغينة، بل كان حريصًا على دعمه وتوجيهه فى كتاباته اللاحقة، وكل ذلك ابتغاء وجه الوطن.

رفض طلب فاتن حمامة كتابة سيناريو خاص لها


بعد خروج صلاح حافظ من السجن بدأ رحلة جديدة مع صاحبة الجلالة ومرحلة جديدة مع الأدب، فقد عاد متوهجًا وازداد بريقًا، لكن بقى الصراع والصدام مع أهل السلطة السمة المشتركة بين عهدى «ناصر» والرئيس الراحل محمد أنور السادات. فقد حدث صدام شهير بين والدى و«السادات»، عندما سأله الرئيس: «اللى حصل فى يناير ١٩٧٧ كان إيه يا صلاح؟»، فأجابه أبى: «كان ثورة يا ريس»، فاتخذ «السادات» قرارًا بإبعاده عن «روزاليوسف».
لم يهدأ أبى، وسرعان ما بدأ فى تأسيس عدد من التجارب الصحفية الخاصة، بدأها بمجلة «الشرقية» لصاحبتها سميرة خاشقجى، وأنهاها بجريدة «العالم اليوم»، بجانب دعمه الشديد لظهور مجلة «نصف الدنيا»، وجميعها كانت تجارب قوية ورنانة.
أذكر أنه حين تم اغتيال «السادات» وجدته يعقب بقوله: «لو تدبر الرئيس كلماتى حين قلت له إن انتفاضة يناير ١٩٧٧ كانت ثورة لما جرى ما كان، لكنه تكبر ورفض النصيحة فكانت النهاية». وخلال فترة ابتعاد أبى عن «روزا»، بدأ فى إصدار عدد من المؤلفات، أبرزها «دبرنى يا وزير»، قبل أن يكتب سيناريو المسلسل التليفزيونى الشهير «زينب والعرش» وغيرها من الأعمال، وقد رشحنى والدى لأداء دور ابنة الفنانة هدى سلطان فى العمل، لكن خجله منعه من التحدث مع المخرج يحيى العلمى فى الموضوع، خوفًا من أن ينتابه إحساس بأن أبى يتدخل فى صميم عمله.
ولم يقطع أبى شوطًا أكبر فى عالمى السينما والدراما فقد كان مرتبطًا جدًا بعالم الصحافة، وخشى من أن تجذبه نداهة الفن، ولهذا لم يمكث طويلًا داخل مجتمع الشاشة الفضية، فذات مرة جاءته فاتن حمامة تطلب أن يكتب لها نصًا يصلح كمسلسل أو فيلم فرفض طلبها، قائلًا: «أنا لا أُفصّل كتابتى على مقاس أحد.. أنا أكتب للجميع وعن الجميع».

يوسف إدريس كان أعز أصدقائه.. وعادل حمودة تلميذه النجيب

جمعت الصداقة بين والدى وعدد كبير من الفنانين، لكن يبقى الفنان عادل إمام هو الأقرب إلى قلبه، وبالرغم من كونهما لم يلتقيا أبدًا إلا أنهما كانا دائمًا ما يتبادلان التحيات عبر عدد من الأصدقاء المشتركين، فـ«صلاح حافظ» كان مؤمنًا بفن الزعيم ومعجبًا بأدائه التمثيلى، وعندما حدثت أزمة فيلم «الأفوكاتو» الشهيرة كان أبى من أشد الداعمين له.
ولفت انتباهى فى مسلسل «عوالم خفية» للزعيم، الذى جسد من خلاله شخصية صحفى، وجود بعض المشاهد المنقولة بالكامل من كتاب «دبرنى يا وزير».
أما عن أصدقائه وتلاميذه خلال رحلته مع صاحبة الجلالة فقد تتلمذ على يده كثيرون، لكن يظل الكاتب الصحفى عادل حمودة هو أقرب تلاميذه إليه، وأشدهم محبة وألفة، فقد استطاع «حمودة» أن يحول علاقة الأستاذية بينهما إلى درجة من الصداقة المتينة والقوية، وقد دعمه والدى بشدة ليتولى رئاسة تحرير «روزاليوسف».
وقد عبّر عادل حمودة عن حبه وتقديره لـصلاح حافظ عندما كتب إهداءً خاصًا له فى مقدمة أحد كتبه، قال فيه: «مَنْ علمنى حرفًا صرت له صديقًا»، فقد كان يراه الأستاذ الحقيقى للعاملين بالصحافة المصرية.
بينما يبقى يوسف إدريس هو الصديق الدائم له، وأذكر أنه حين علم بوفاته ترك الجريدة دون أن يخبر أحدًا بالانصراف، وهو أمر لم يكن معتادًا.
كان أبى محبًا للحياة مقبلًا عليها، حتى فى أشد لحظات ضعفه ومرضه، فقد كان حريصًا على ارتداء أفخم الثياب و«أشيكها»، ونجح فى أن يكون «مايسترو» فى دنيا الصحافة والأناقة، وارتباطه بأمى الفنانة هدى زكى إحدى أهم الجمل الاستثنائية فى مسيرته، إذ عاشت معه لحظات الحب وشاركته أوقات الرعب، وقد تعرف والدى على أمى فى عيادة الشاعر الطبيب إبراهيم ناجى، وكانت تعمل سكرتيرة هناك، وهو كان يتدرب كطبيب مبتدئ، فحينها كان لا يزال طالبًا بكلية الطب.
بمرور الوقت اشتعل الحب بينهما، فقررا الارتباط والزواج، وعندما ذاق أبى مرارة السجن فى عهد «عبدالناصر» لم تتخل عنه، فقد ساندته مثل «١٠٠ رجل»، وعندما خرج من السجن طلبت منه الطلاق، فانفصلا بهدوء.
وبالرغم من ذلك، إلا أنهما بقيا على العهد صديقين، ما يجمعهما أكبر بكثير مما يفرقهما، ودائمًا ما كانت تزوره بصحبتى فى منزل زوجتيه اللتين ارتبط بهما فيما بعد.
بعد خروجه من المعتقل، وفك الشراكة الزوجية بينه وبين والدتى، أقام أبى فترة فى منزل الأخوين كامل ومأمون الشناوى، وهناك تعرف على ابنة الأخير «معالى»، وبعد فترة جمعهما الزواج تحت سقف واحد، واستمرت هذه العلاقة فترة قبل أن يقررا الطلاق، وأخيرًا تزوج أبى من هالة الحفناوى، وبقيت معه حتى وفاته، وهذه القصص الثلاث ملخص حياة صلاح حافظ الزوجية.
أبى كان لى نعم الصديق، فقد منحنى الحرية وحمّلنى المسئولية، ولم يتدخل أبدًا فى اختياراتى، ولم يجبرنى على فعل شىء لا أريده، ودائمًا ما كان يقول لى: «كل حاجة تعمليها أنت مسئولة عن نتائجها».
جلساتى معه كانت تجمع بين السمر والمرح والجد والهزل، وقد فتح أمامى كنوزًا من المعرفة والعلم، بجانب نصيحته الدائمة لى بالاعتماد على نفسى، فأنا لم أستغل اسمه أو أستفيد من معارفه فى فرض نفسى داخل الوسط الفنى، ويكفينى أنه كان السبب الرئيسى فى ارتباطى بالقرآن كرفيق أستأنس بصحبته.
وأشد اللحظات صعوبة فى حياة والدى كانت خلال إصابته بالسرطان، فبعد أن تضاءلت فرص علاجه هنا فى مصر، ذهب إلى إحدى المؤسسات الصحية فى السويد، وكانت تجرب علاجًا جديدًا لهذا المرض، فكتب إقرارًا بأنه مستعد لأن يجرب العلاج الجديد متحملًا المخاطر، خاصة أن فى ذلك فرصة لاستخلاص دواء قد يكون سببًا فى شفاء الكثير من المرضى بعده.
وعندما حانت لحظة وفاته، رحل وهو راضٍ عن نفسه، فقد شعر بأنه أدى كل ما عليه تجاه أهله ووطنه.