رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بيروقراطية «الجالس القرفصاء»


تعتبر الإدارة المصرية أحد أقدم النظم البيروقراطية فى العالم، وهى إدارة تعتمد منظومة إدارية شديدة التعقيد والمركزية، مستندة إلى إطار تنظيمى ترهل، يتسم فى مجمله بعدم الاكتراث وضعف الأداء، الأمر الذى قاد إلى تجذر موروث من عدم الكفاءة وعدم الفاعلية يتبادران إلى الذهن كصورة، للأسف باتت معلومة حال ذكر الجهاز الإدارى للدولة المصرية.
وعليه أتصور أن التحديات التى واجهت الرئيس «السيسى» عند بداية الشروع فى تنفيذ مشروعه العمرانى الهائل كانت كبيرة لابتغاء منهجية إدارته الجادة تطبيقات نظم الجودة بمعايير عالية وبتوقيتات محددة الإنجاز السريع، وفى ضوء دراسات جدوى مسبقة معدة بشكل علمى وعملى، مما يضمن النجاح المأمول للأهداف المعلنة.
بالعودة إلى تاريخ مصر السياسى والاجتماعى عبر معظم المراجع المعتمدة يتأكد لنا أن البيروقراطية كأسلوب للحكم والإدارة كانت مطبقة كأنظمة فى مصر القديمة فى عهد الفراعنة وعلى مر السنين، ويمكن بشكل محدد اعتبار عصر بداية الأسرات فترة تشكيل نظم بدائية، ثم أصبحت فيما بعد أساسًا لكل التنظيمات الكبيرة، التى طبقت فى الفترات التالية، فإذا ما عدنا إلى الأزمنة الأولى لوجدنا جذور البيروقراطية تتمثل فى شخصية «الكاتب الجالس القرفصاء» فى أيام الفراعنة، ثم «شيخ البلد» فى مصر القديمة، ومع مرور الوقت، تأكدت سمات المركزية والبيروقراطية وتضخم الجهاز الإدارى، وأصبح الموظفون يشعرون بأهمية خاصة، ويمارسون سلطاتهم بطريقة تعسفية واستبدادية مشتقة من شخصية النظم الحاكمة، التاريخ يدلنا على أن رخاء مصر وازدهارها واستقرار العمران فيها كان رهنًا بدرجة أو بأخرى بدور الجهاز الإدارى.
يطلق على الإدارة البيروقراطية فى مصر جهاز الخدمة المدنية Civil Service، ويبلغ عدد العاملين فى بيروقراطية الدولة المصرية نحو ٦ ملايين موظف، منهم نحو مليون و٩٦٢ ألفًا و٧٢ موظفًا بالجهاز الإدارى، و٢ مليون و٩٩٢ ألفًا و١٧٣ موظفًا بالإدارة المحلية و٤٦٨ ألفًا و٩٦١ موظفًا بأجهزة الخدمة العامة، و٣٣٥ ألفًا و٢٢٣ بالهيئات الاقتصادية العامة، إلى جانب ما يزيد على نصف مليون من العاملين بعقود مؤقتة.
ويمكن استشعار أسباب تراجع النظم الإدارية عندما ندرك أن نسبة العاملين فى الدولة المصرية إلى إجمالى عدد السكان واحد إلى ثلاثة عشر، وهى نسبة كبيرة للغاية بالمقارنة مع المعدلات الإقليمية والدولية السائدة، حيث تبلغ هذه النسبة فى المغرب واحد إلى ٢٩، وفى فرنسا واحد إلى ١١٤، وفى بريطانيا واحد إلى ١١٢، وفى ألمانيا واحد إلى ١٠٩.
كما أن كرسى الإدارة العليا له جاذبيته وبريقه الساحر منذ زمن مصر القديمة.. كان صاحب المنصب فى مصر القديمة بمثابة نصف إله، كان المسئول صغيرًا أو كبيرًا يستمد سلطانه وسطوته من فرعون مصر، ولكن الأمر يختلف فى الديمقراطيات الناضجة ابتداء من ديمقراطية اليونان ومرورًا بالديمقراطية الإنجليزية والفرنسية حيث كافحت الشعوب وبذلت الكثير من التضحيات، وليس للكرسى هذه المكانة فالجماهير هى صاحبة السيادة.
وإذا كان ابن خلدون قد أطلق على علم المجتمع علم العمران، وكان يرى أن الخيال ضرورة لمن يجلس فوق كرسى فإذا افتقد الخيال ماتت القدرة الإبداعية على «إدارة البشر» وصار الكرسى قطعة من الخشب تسمح للظهر بأن يتكئ عليها، لا أكثر، وعليه، أتفق مع الكاتب الصحفى الكبير مفيد فوزى لوصفه أن كرسى المنصب ليس سوى عقد مؤقت مع السلطة، أكرر مرة أخرى «عقد مؤقت»، ومن يدرك هذه الحقيقة يعطى الصالح العام بلا حدود ويصبح فى خدمة الكرسى دون تعال عليه، ومن يتصور أن هذا العقد مع السلطة خالد.. تهاجمه بلا هوادة أمراض الكرسى، وهى احتقار الآخرين والنظر من أعلى والاستغلال، وبالكشف الدقيق يظهر أن الكرسى غير حميد!
أيضًا ورث الموظف المصرى تقاليد إدارية تعود لعصر الاستعمار، أو موظفى عصر الاستعمار.. وكان هؤلاء طبقة من الموظفين روعى فى تعليمهم منذ الصغر أن يتعودوا على الطاعة بدلًا من التفكير.. وأن يحذروا من اتخاذ أى قرار.. لأن أى قرار قد يؤدى إلى الخطأ والعاقل من ابتعد عن الخطأ.. ولسوف تترك مهمة اتخاذ القرارات للخبير الإنجليزى الرابض كالأسد الإنجليزى فى كل إدارة أو فى كل وزارة.. ولم يكن من المهم كثيرًا أن يكون هذا الخبير خبيرًا حقًا، لأنه كان ينفذ سياسة الاستعمار الاستراتيجية والتكتيكية، وبالتالى لم يكن مجاله فى الحركة يتسع للخطأ. فى ظل هذه الرئاسات عمل الموظف المصرى وراح يشرب تقاليد البيروقراطية الإنجليزية، بعد أن شرب تقاليد البيروقراطية الفرعونية منذ عشرات القرون.
ولم يلبث الموظف المصرى بعبقريته أن هضم هذا كله وتمثله وأخرج لونًا لا مثيل له من ألوان البيروقراطية التاريخية الفذة.. وهى بيروقراطية تراعى مصالح رع.. كما تراعى مصالح الخليفة التركى المتوفى منذ قرون، كما تراعى مصالح الفرنجة البيض الذين شرفونا باحتلالهم ديارنا، وبقدر خضوع الموظف البيروقراطى لهذا كله، يزيد استعلاؤه تلقائيًا على الجمهور الذى يقبض مرتبه من أرباح دافعى الضرائب فيه.
ولقد ترتب على هذا الخلل خلل طبيعى آخر، هو نشوء الموقف الغريب بين الموظف والجمهور.. وإن كنا قد فقدنا الإحساس بغرابته من فرط الاعتياد عليه، ولقد سمح هذا الموقف للموظف بأن يتأرجح بين حد الرشوة والفساد والاختلاس أو حد اللامبالاة والكسل وتضييع مصالح الخلق.
على أن أعظم خلل أصاب الإدارة المصرية كان هو تدخل السياسة فى التخطيط لها وتفضيل اعتبارات مرحلية على قوانين الاقتصاد وقواعده وعلى حساب الربح أيضًا والخسارة.