رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زلزال الجيش التركى.. مع «ليلة جنرالات» طويلة ومظلمة


منتصف أغسطس الماضى، نشر موقع «المونيتور» الأمريكى دراسة عما يسمى «الاتفاق الأمريكى التركى بشأن الشمال السورى»، ووصف الأمر بأنه ليس هناك اتفاق أمريكى تركى بالمعنى الكامل بل يقتصر على كونه وعدًا مكتوبًا، لأول مرة، بضرورة مواصلة المحادثات بين الجانبين، بل ذهبت الدراسة إلى اعتبار ما تم تقديمه للجانب التركى ليس سوى «رشوة» لمنع التهديدات التركية التى يطلقها أردوغان باجتياح الشمال السورى.
أردوغان صرح فعليًا فى ٤ أغسطس بشكل واضح لا لبس فيه، عن اجتياح تركى وشيك لشمال شرق سوريا، وهو قرار اعتُبر من الأسباب الرئيسية للزلزال الذى ضرب الوضع الداخلى للجيش التركى، حيث تقدم، على نحو مفاجئ، خمسة من كبار قادة القوات المسلحة التركية باستقالاتهم من مناصبهم القيادية داخل الجيش، وهم «العميد أحمد أرجان تشورباجى، والعميد رجب أوزدمير، والعميد عمر فاروق أوزدمير، والعميد أوغو بولاند أجارباى، والعميد أرطغرل صاغلام»، بينما تقدم آخرون بطلب للتقاعد.
فى زخم ترتيبات الوضع الجديد فى الشمال السورى، سعى أردوغان لاحتواء الأمر والمضى قدمًا فى مخططه، متظاهرًا بأن الأمور على ما يرام فى كل الأحوال، وطار إلى موسكو كى يلتقى الرئيس بوتين للإيحاء بأن هؤلاء القادة يغادرون لأسباب لا علاقة لها بالأحداث الجارية، بل جرى تسريب داخل الصحف الموالية لحزبه، باعتبار الأمر شكلًا احتجاجيًا من قِبل القادة على القرارات الأخيرة لمجلس الشورى العسكرى الأعلى، الذى عُقد مطلع الشهر الجارى برئاسة رجب أردوغان بنفسه، والذى أصدر حينها قرارًا بإحالة «٤٧ قائدًا عسكريًا» للتقاعد، وكان من بين القادة العسكريين المحالين للتقاعد «٢١ من قادة القوات البرية»، على رأسهم قادة تولوا مناصب مهمة داخل القوات المسلحة، خلال تنفيذ الجيش التركى عمليتى «درع الفرات» و«غصن الزيتون» داخل الأراضى السورية.
تسريب آخر جرى تمريره عبر موقع «Veryansintv» الإخبارى التركى، الذى ذكر أيضًا أن قرارات الضباط بالاستقالة والتقاعد جاءت اعتراضًا على عملية التعيين ونقل المناصب التى تمت فى ضوء قرار مجلس الشورى العسكرى الأخير، فى إشارة إلى أن ضباطًا وقادة، لم يشاركوا فى أى حروب، تم تعيينهم فى أماكن رفيعة وحساسة، بينما تم تعيين القادة المقاتلين فى مناصب تقليدية، لكن المؤكد وقوعه فى أروقة المجلس، الذى ترأسه أردوغان، أن غالبية القادة والجنرالات الذين تقدموا بطلب الإحالة للتقاعد هم من شاركوا فى مهام داخل حدود سوريا فى الفترة الأخيرة، ويرون أنهم تعرضوا لظلم بسبب قرارات المجلس الأخيرة. هذا دفع أحد زملائهم العسكريين لأن يعلق على ذلك فى تغريدة باللغة الإنجليزية على موقع «تويتر»، حظيتْ بانتشار واسع فى الأوساط المعنية، ونصها: «٥ جنرالات استقالوا من القوات المسلحة التركية، ٤ منهم كانت لهم مهمات فى وحدات تشارك فى الحرب فى سوريا، الأمر يظهر حالة الغضب تجاه وزير الدفاع الحالى رئيس الأركان السابق خلوصى أكار داخل الجيش».
البروفيسور التركى البارز «محمد أفيه تشامان»، ربما ذهب إلى أبعد من ذلك فى ورقته المنشورة مؤخرًا، والتى عنونها بـ«النظام الجديد فى تركيا والجيش»، حيث استهلها بالتأكيد على أن الجيش فى تركيا يعد عنصرًا مؤسسًا للدولة، فالعسكريون هم من أسسوا الجمهورية التركية، وكان الطاقم المؤسس للجمهورية على رأسهم مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو.
والأكثر من هذا، أن هذا الطاقم كان نتاجًا لوتيرة التحركات التى بدأت بالإصلاحات فى الإمبراطورية العثمانية منذ عام ١٨٠٠م، وكانوا امتدادًا للطواقم السابقة لهم، لكنه ما يلبث أن يصف المحاولة الانقلابية التى شهدتها تركيا يوليو ٢٠١٦ م بالملعونة التى تسببت بخلط كل الإحداثيات الاجتماعية والسياسية فى تركيا، حيث جرى فى تلك الأثناء إلغاء المدارس الحربية والثانويات العسكرية، وتم القضاء على تقاليد كانت تعد حامية للدولة، فالجيش كان يعد مؤسسة سياسية خلال الدولة العثمانية، واستمر على هذا المنوال خلال الجمهورية التركية أيضًا، هذا المكون الذى ظل أكثر مؤسسة محورية، فى الواقع صار الجيش المؤسسى القوى لتركيا قوة مسلحة فى أمرة حزب وفرد واحد.
فعليًا ما يجرى تداوله بداخل تركيا، وهو ما ساهم فى الوصول بالوضع داخل المؤسسة العسكرية إلى ما يشبه الزلزال الحقيقى، أن الجيش التركى اليوم أصبح عنصرًا من عناصر القصر الرئاسى، وما يشعر به بأن هناك سيفًا سياسيًا مسلطًا على رقبته ورقبة قادته، والذى قد يهوى فى أى لحظة ليطيح بالرقاب غير المستكينة لذلك الوضع، تمامًا كما جرى على نحو مفاجئ للعديد من قادة المقاتلات «F ١٦»، الذين كان يُنظر إليهم باعتبارهم أبطالًا بالأمس، ليتم فصلهم اليوم من مناصبهم، استنادًا إلى ادعاءات كاذبة ساهمت فى القضاء على مستقبلهم وحياتهم.
فبعد الانقلاب الفاشل تم بالفعل تجريد تركيا من مفهوم الجيش الوطنى، حيث جرى القضاء كليًا على عمليات التطور الوظيفى داخل الجيش، وإفساد التسلسل القيادى، وتهميش معايير الأقدمية، وإعداد واختيار القيادات المستقبلية وفقًا للتوقعات والولاءات السياسية، ليتحول كل مكوناته إلى مصلحة النظام، للدرجة التى امتدت إلى العسكريين الذين منحتهم قبلًا الدولة التركية جوازات سفر دبلوماسية بسبب عملهم داخل صفوف ومهام «حلف ناتو»، لم ينجوا من نصيب المحاكمات الغيابية والاعتقال فور وصولهم الأراضى التركية، حتى أن البعض منهم تقدم بطلبات للجوء إلى البلدان التى كانوا يقومون بمهام فيها، مما دفع «قيادة ناتو» إلى طرح العديد من علامات الاستفهام، حول الاستعانة مستقبلًا بضباط أو جنود أتراك قد يتحولوا بين عشية وضحايا إلى متهمين بتهمة «الإرهاب».
بالعودة إلى البروفيسور التركى، فى طرحه تساؤلًا صادمًا، يقول: «هل وصلنا إلى أن نشكك فى (وصف الدولة)، لدولة صنفت نحو (٥٠٪ من جنرالاتها) كعناصر إرهابية، أم نشكك فى إسناد تلك الدولة لهذا العدد الهائل من الرتب العسكرية الرفيعة تهمة (الإرهاب). أيهما تفضلون؟»، أيًا كانت الإجابة فمن الواضح أن المؤسسة العسكرية التركية قد دخلت إلى نفق مظلم طويل دون أن تترك يد النظام السياسى لتسحبه معها تجاه هذا المصير المجهول.