رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حرب يوم القيامة «1»


لا بد أن نقف بوعى واهتمامٍ بالغ أمام التصريح الخطير الذى صدر عن الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون»، فى أخريات شهر أغسطس الماضى، وفحواه الانتقاد الشديد لـ«الأزمة غير المسبوقة» التى حلّت بـ«اقتصاد السوق»، بعد أن أصبح هذا الاقتصاد، حسب رؤيته، «مدفوعًا بدرجة كبيرة بالتمويل، ما تسبب فى عدم المساواة التى تهز النظم السياسية»، (الأهرام ٢٨٨٢٠١٩).
لكن الأهم فى موقف «ماكرون» هو التأكيد على أن العالم يعيش نهاية «الهيمنة الغربية» فى العالم، جزئيًا نتيجة الأخطاء الغربية على مدار القرون الماضية، مُلحًا على «الحاجة إلى تحديد التهديدات الجديدة، والتفاهم بشأن أجندة جديدة مشتركة»! يحتاج الأمر، بالفعل إلى وقفة متعمقة للنظر فى فحوى هذه الكلمات المحدودة العدد، الخطيرة المضمون، ونبدأ أولًا بملاحظة أن قائلها، الرئيس الفرنسى، ليس محسوبًا على أفكار أو توجهات «اليسار الراديكالى» الكاره للنظام الرأسمالى، أو المُنتقد للتوجهات «النيوليبرالية»، والمُطالب بتغييره، وحين طرح نفسه للمنافسة على الموقع الفرنسى الأول، لم يطرحه مستندًا إلى تاريخ سياسى مُحدد، أو انحيازات اجتماعية لطبقات بعينها، وإنما قدّم نفسه كقادم من خارج التقسيمات الأيديولوجية المعروفة: «لا يمين ولا يسار»، بل إن مواقفه وسياساته كانت محل اعتراضات واسعة، قادتها حركة «السترات الصفراء»، فى الشهور الماضية لإضرارها بمستويات المعيشة للمعترضين، على نحو ما شرح مقال «نابليون الصغير ينضج»، للأستاذ «عبدالله عبدالسلام»، (نفس المصدر)، وهو ما يُضاعف من أهمية هذا الكلام مرّات عديدة.
والنقطة الثانية: أن هذا التصريح لا ينطلق من فراغ، ولا يذهب كذلك إلى فراغ، فمُطلقه رئيس دولة رأسمالية أساسية، وركيزة من ركائز النُظم الليبرالية الراسخة، واعترافه الواضح الذى لا لبس فيه، وهو سليل واحدة من أعتى الإمبراطوريات الاستعمارية البائدة، بأن العالم «يعيش نهاية الهيمنة الغربية»، اعتراف رؤيوى، لمدركٍ بصير، يعلم علم اليقين أن العالم يتغير تغيُّرًا لا رجعة فيه، وهو هنا لا يريد أن يقف مُعاندًا أمام «عجلة التاريخ» المندفعة حتى لا تهرسه سنابكها، وإنما يريد أن يعرف اتجاه الرياح حتى يركبها وصولًا إلى مظانه.
ولعلنا هنا، والشىء بالشىء يُذكر، نستعيد، من موقع السخرية والتندر، مقولة «فرانسيس فوكوياما»، المفكر الأمريكى المحافظ، اليابانى الأصل، التى شاعت منذ سنوات، بأن العالم وقف على أبواب الليبرالية الجديدة، والاقتصاد الرأسمالى العولمى المتوحش، وقفة «نهاية التاريخ»، التى لا نهاية بعدها، مُعتقدًا أن انهيار المنظومة السوفيتية، وتبعثر مكوناتها، هو إعلان حتمى بموت حلم العدالة والمساواة والتكافل الإنسانى، لصالح اقتصاد السوق الذى لا يرحم، وسياسات الاحتكار والمنافسة الشرسة التى تدوس على الإنسان ولا تُقيم لأمانى مليارات البشر اعتبارًا، حتى فاجأتهم «سخرية التاريخ» بصحوة «التنين الصينى»، التى زلزلت الأركان، وهزت المُستَقَر من النُظم والأفكار والسياسات والاستراتيجيات.
أما الملحوظة الثالثة، فتختص بالإشارة إلى «طبيعة ودورية الأزمات الرأسمالية العالمية»، وهى فكرة رئيسية من أفكار التحليل الماركسى للمنظومة الاقتصادية الرأسمالية، الذى أفاض «كارل ماركس» فى شرحها وتشريح أبعادها وركائزها، على صفحات سفره الأكبر «رأس المال»، وكذلك ذهب العديد من المفكرين الاقتصاديين المتأثرين بأفكاره، بل وتأثر بهذا المنهج بعض المفكرين غير المحسوبين عليه، مثل المفكر الاقتصادى الفرنسى (أيضًا)، «توماس بيكيتى»، فى كتابه المعنون: «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين»، الذى وزّع أكثر من خمسين مليون نسخة، وكان حديث الأوساط الاقتصادية والسياسية منذ أعوام قليلة، والذى ذهب فيه إلى أنه فى حال استمرار السياسات الاقتصادية العالمية الحالية ستتعمق الفوارق الطبقية الهائلة بين الأغنياء والفقراء، «على المستويين: المحلى والعالمى»، وإذا ما استمر الاتجاه نحو اللامساواة فى التصاعد، «فوحدها كارثة كالحروب العالمية فى القرن العشرين يمكن أن توقفه».