رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عندما تجاهلوا رأى العالم وتفاعل الجماهير


بعد رحيل المفكر الاقتصادى د. صلاح جودة «رحمه الله» الناجح فى تفاعله الجماهيرى عبر مداومته على طرح حلول لمشاكل اقتصادية مقيمة صعبة، نتيجة قصور الموارد المالية والبشرية، وتحديدًا عقب إعلان الوفاة، كان للكاتب الصحفى الرائع «عصام العبيدى» مقال مهم ما زلت أذكره بجريدة «الوفد»، من بين ما جاء فيه حول شخصية «صلاح جودة» كتب: «قولوا عنه نصاب، أو صاحب شهادات مضروبة، أو حتى مجرم عتيد فى الإجرام، فقد ذهب الرجل عند مليك مقتدر، يعرف أقدار الناس، ويجازى على الإخلاص والعمل الطيب، الذى لا هدف له إلا مصلحة الوطن!!.. لم يتحمل قلب الرجل الذى امتلأ حبًا وهيامًا ببلده.. لم يعد يتحمل سهام الفاشلين، كانت مشكلة الرجل الوحيدة، أنه خلق عبقريًا، أو قل إنه خلق عاقلًا».
كان «جودة» فى كل مقابلاته الإعلامية يتعمد البساطة والمباشرة فى العرض، منها ما أشار لها «العبيدى» كمثال فى مقاله: «د. جودة رجل امتلك علمًا غزيرًا، وطلاقة لسان نادرة، وقدرة على توصيل المعلومة الاقتصادية الجافة، لرجل الشارع البسيط، وكل ذلك مغلف بخفة دم مصرية ﻻ تتكرر، فعندما تسأله مذيعة مثلًا:
- يعنى إيه يا دكتور صلاح، (مذكرات التفاهم)، اللى بيقولوا عنها فى قمة شرم الشيخ الاقتصادية دى؟!.. فيقول لك دى زى واحد ماشى قدامى، وأنا قاعد قدام البيت، رمى علىّ السلام، قلت له اتفضل عندنا، اشربلك كوباية شاى، وخدلك حتة كيك، قام قال لى شكرًا ومشى!.. وهنا ﻻ الراجل عابر السبيل شرب شاى، وﻻ دخل فى جوفه كيك، وكمان أنا ما تحملتش مليم من عزومة المراكبية دى، هى دى بالظبط عاملة زى مذكرات التفاهم، هى مجرد وعد لم يتحقق حتى تاريخه!.. بالله عليكم، حد ممكن يبسط أعقد المسائل والقضايا الاقتصادية، لعوام الناس زى كده، فيفهمه أستاذ الجامعة، وبتاع الورنيش!!
ولكن- ويا للغرابة- ظل جودة يقول ويبهر كل الدنيا إلا متخذ القرار المسئول الحكومى، لم يتفاعل أحد من رموز الحكومات المتعاقبة مع أطروحاته وما أثارته من حوارات فى الشارع المصرى بالسلب أو الإيجاب!»
وحكايات الشوارع فى مجال استعراض المشاكل الاقتصادية كثيرة عبر التاريخ، وهو ما دفع مجلة «آخر ساعة» لإجراء مقابلة فى عددها الصادر فى ١٤ يناير ١٩٥٥ مع أسرة تمثل ثلاثة أجيال.. كانت الأسعار محور حديثهم.. تكلم الجد عن أسعار ١٩١٤، فدلل على انخفاضها بأن ثمن التذكرة لكرسى «اللوج» فى مسرح سلامة حجازى كان بخمسة قروش، فى حين أن ثمن التذكرة فى هذه الأيام بأى مسرح عادى لا يقل عن خمسين قرشًا، على الرغم من أن روايات سلامة حجازى كانت تستمر إلى الساعات الأولى من الصباح.. وقال الأب إنه فى سنة ١٩٣٢ وهو طالب بالحقوق، كان يسكن فى الدور الثانى من أحد البيوت، وكان بائع القصب يناوله العود الذى طوله ثلاثة أمتار وهو واقف فى النافذة، فإذا سأله عن الثمن أجابه وهو خائف من المساومة احدف نكلة!
وقال الحفيد إنه لا يعرف أسعار التفاح فى الماضى، ولكنه يتذكر أنه صعق عندما سمع حوارًا يدور فى أحد أفلام الريحانى عندما قال لإحدى الممثلات مغازلًا «خدك لونه زى التفاح الأمريكانى أبو ستة صاغ».
وبعد، فخبراء المالية يقولون إن أسعار ١٩١٤ ليست إلا حدثًا تاريخيًا، والرجوع إليها كارثة اقتصادية، لأن ذلك معناه انهيار الاقتصاد كله!.. وتذكر المجلة استمرار الأسعار فى الارتفاع، خصوصًا سنة ١٩٥١ وأن السبب كان- كما يقول خبراء المالية- ضغط العوامل التضخمية الناشئة من التلاعب بأسعار القطن فى البورصة، ورفعها فى السوق الداخلية رفعًا مفتعلًا لا يقابله ما يماثله فى السوق العالمية.
وكانت النتيجة أن باع الأفراد منتجاتهم بهذه الأسعار العالية، ولم تستطع الحكومة أن تصدر ما لديها، فكثرت القوة الشرائية فى أيدى الأفراد، بينما قلت المواد المستوردة والمواد المنتجة، فلم يعد هناك توازن بين القوتين، والذين قالوا هذا متفائلون.. قالوا إن مصر مقبلة على رخاء، وإن قيمة الجنيه فى ارتفاع متزايد، وتؤكد ذلك إحصائية المتوسطات السنوية لنفقات المعيشة فى شهر ديسمبر سنة ٥٣ بالمقارنة بديسمبر سنة ٥٤، إذ بلغت فى الأولى ٣٨٥٪.. وفى الثانية ٣٦٨٪ بالنسبة لسنة ١٩١٤.. وأعود وأكرر ما قاله «العبيدى» حول حالة الدكتور جودة، فقد تتم مراجعة ما لأفكار أهل العلم والرأى ومحاولة مناقشتها، فقد يكون فى بعضها الخير العميم.. «قولوا عنه نصاب، أو صاحب شهادات مضروبة، أو حتى مجرم عتيد فى الإجرام، فقد ذهب الرجل عند مليك مقتدر، يعرف أقدار الناس، ويجازى على الإخلاص والعمل الطيب، الذى لا هدف له إلا مصلحة الوطن».