رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في ذكرى رحيل "ناجى العلي".. "فاطمة" و"حنظلة" ما زالا ينتظران القصاص

جريدة الدستور

تحل علينا اليوم ذكرى رحيل رسام الكاريكاتير الفلسطيني "ناجى العلى"، الذي تم اغتياله على يد شاب مجهول في أحد شوارع لندن، عام 1987.

"ناجى العلى" كان يرسم لهدف واحد أن يصل بريشته إلى قلب فلسطين، بالنسبة له الطريق إلى فلسطين ليس بالبعيد ولا بالقريب، ولكنه بمسافة الثورة على حد تعبيره.

جريمة قتل بلا عقاب، لفنان استثنائي وأيقونة فلسطينية وعربية قادته الصدفة لأن يصبح رسام كاريكاتير، كان لديه توجه في بداية شبابه نحو المسرح، كان يريد أن يصرخ بالكلمة التي تنقل مشاعره وأحاسيسه، لكن الظروف دفعته للعمل في المجال الصحفي واكتشف أن الكاريكاتير هو الأداة المناسبة للتوصيل، وربما الموت أيضا بكاتم الصوت.

جريمة مر عليها 32 عاما، ولا يزال لغزها بلا حل حتى يومنا هذا، القاتل بلا ملامح باستثناء صورة تقريبية لهويته عرضتها "سكوتلانديارد" مع صورة للمسدس الذي استخدمه القاتل بجريمته، نام العلي في غيبوبة حتى وفاته ودفن في لندن، على الرغم من طلبه أن يدفن إلى جوار والده في مخيم عين الحلوة، حيث رسم أول رسوماته على جدران المخيم حفرا وبالطباشير.

هو ناجي سليم حسين العلي، ولد عام 1937 في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة، بالنقد اللاذع، والسخرية السوداء، عبر في أربعين ألف رسم كاريكاتيري، كان يأخذ شكلا تحريضيا حينا، وشكلا ثوريا حينا آخر.

بعد احتلال فلسطين عام 1948 هاجر ناجي العلي مع أهله إلى جنوب لبنان، وعاش في مخيم عين الحلوة، سافر بعدها إلى طرابلس حصل على شهادة ميكانيكا السيارات، ثم التحق بالأكاديمية اللبنانية عام 1960 ودرس الرسم فيها لمدة عام.

اكتشفه القاص والروائي والصحفي الفلسطيني الشهيد "غسان كنفاني" بعد أن شاهد رسوماته أثناء زيارته لمخيم عين الحلوة، فنشر له أولى لوحاته في مجلة "الحرية" عام ،1961 وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوح، ثم عمل محررا ورساما ومخرجا صحفيا في عدة صحف ومجلات كويتية من بينها "الطليعة"، "السياسة"، "القبس"، "القبس الدولية" و"السفير اللبنانية".

رافقت جميع رسومات ناجي، شخصية الصبي "حنظلة" وهو صبي في العاشرة من عمره، ويرمز للفلسطيني المعذب والقوي، على الرغم من كل الصعاب التي تواجهه فهو شاهد صادق على الأحداث لا يخشى أحدا وغير مهتم، أدار ظهره للعالم ويديه خلف ظهره.

قال عنه ناجي العلي: إن "حنظلة" ولد مع حرب يوينو 1967، وهو بمثابة "الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية، ولد في العاشرة في عمره وسيظل دائمًا في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء".

وأما عن سبب تكتيف يديه قال ناجي العلي: "كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبعا"، وعندما سئل ناجي عن موعد رؤية وجه "حنظلة" أجاب: "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته".

قدم ناجي شخصيات أخرى رافقت "حنظلة"، من بينها شخصية المرأة الفلسطينية، والتي تمثلها "فاطمة" هي شخصية قوية وغاضبة، مواقفها واضحة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بعكس شخصية زوجها الكادح والمناضل النحيل ذي الشارب، المتردد والمستكين، وهو في النهاية رجل طيب ومسالم.

مقابل هاتين الشخصيتين تقف شخصيات أخرى، فهناك شخصية السمين صاحب المؤخرة العارية، والذي لا أقدام له أشار به لبعض القيادات الفلسطينية والعربية والخونة والمطبعين، وأيضا شخصية الجندي الإسرائيلي، طويل الأنف، الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكا أمام حجارة الأطفال، وخبيثا وشريرا أمام القيادات الانتهازية.

نقده الشديد والمباشر لأي شخصية أو نظام كان السبب وراء إطلاق النار عليه في لندن في شهر يوليو عام 1987، وكان قد تلقى عددا من التهديدات بالقتل بسبب رسومه الكاريكاتيرية، التي سخر فيها من السياسات والسياسيين في الشرق الأوسط.

بعد غيبوبة لأكثر من شهر توفي ناجي العلي في 29 أغسطس 1987، بعد أن تلقى رصاصة في رقبته من الخلف في وضح النهار عندما كان يترجل من سيارته إلى مكتب صحيفة "القبس" الكويتية في نايتسبريدج.

قال الشهود إن المشتبه به كان مسلحا وهو يتبع العلي، ثم لاذ بالفرار من الموقع على قدميه، وجرى بعيدا، كان عمره حوالي 25 عاما، وملامحه شرق أوسطية، كما قالوا إنهم رأوا رجلا آخر في الخمسينات من العمر، وأصوله شرق أوسطية، وهو يركض قريبا من موقع الحادث، ويده داخل جيبه كما لو كان يخفي شيئا، ثم ركب سيارته المرسيدس، وقادها بعيدا.

أحاط الغموض قضية اغتيال ناجي العلي، فبعد اغتياله راجت عدة فرضيات حول الجهة التي نفذت عملية الاغتيال من بينها "الموساد الإسرائيلي"، وأطراف فلسطينية، أو نظام عربي أزعجته انتقادات ناجي اللاذعة.

قالت التحقيقات البريطانية إن أحد المشتبه بهم يدعى "بشار سمارة" كان منتسبًا إلى منظمة التحرير الفلسطينية، لكنه في الواقع كان عميلًا لدى "الموساد الإسرائيلي"، وقامت الشرطة البريطانية، باعتقال طالب فلسطيني يدعى "إسماعيل صوان" ووجدت أسلحة في شقته، ولم توجه له أى تهم تتعلق بالجريمة.

كان لدى الشرطة البريطانية قناعة بأن الموساد متورط بالجريمة، والذي رفض بدوره، وبشكل رسمي التعاون مع التحقيقات البريطانية، مما أثار غضب رئيسة وزراء بريطانيا "مارجريت ثاتشر" التي قامت بإغلاق مكتب "الموساد" في لندن.

ولكن أكدت الفرضيات أن "الموساد" هو من دبر الاغتيال، وذلك لانتماء ناجي إلى "حركة القوميين العرب" التي قامت "إسرائيل" باغتيال بعض قياداتها من بينهم "غسان كنفاني"، كما تشير بعض المعلومات إلى أنه عقب فشل محاولة الموساد فى اغتيال "خالد مشعل"، قامت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية بنشر قائمة بعمليات اغتيال نفذها الموساد وذكر اسم ناجي العلي في القائمة.

كان اغتيال ناجي العلي بكاتم الصوت الذي طالما أدانه برسوماته رسالة بأن للكلمة والخط المرسوم والريشة وقع وتأثير أقوى من طلقات الرصاص، سنبقى نتذكر عبارته الغاضبة "كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي، أنا أعرف خطا أحمر واحدا: إنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع على اتفاقية استسلام وتنازل عن فلسطين".