الأناقة الداخلية.. سلوك وقيم
الأناقة قد تكون لها مقاييس واضحة، ويعرفها الخبراء فى المظهر الخارجى لأى منا، مثل ارتداء الملابس اللائقة التى تليق بالمكان والوقت.. ومثل أن يكون الموديل مناسبًا للشخص ولسنه ولمكانته.. بالإضافة إلى هذا، فإن الملابس المناسبة فى السهرة غير المناسبة فى الصباح، أو فى العمل، أو فى زيارة، أو فى نادٍ أو فى البيت.. ويكون مظهر المرأة الخارجى أنيقًا عندما ترتدى ملابس تجعلها راقية المظهر، غير مغالية فى ملابسها.. البساطة أيضًا هى جزء من الأناقة، ولا يهم أن نرتدى أزياء فاخرة أو غالية الثمن، وإنما المهم أن تكون مناسبة مع ذوقنا، ومع المكان، وأن تكون ملائمة لشكلنا ولمقاييسنا.
إلا أن اكتمال الأناقة للمرأة أو للرجل لا يكون بأناقة المظهر واختيار الملابس التى تجعل مظهرنا راقيًا وجميلًا ونظيفًا.. فمن الضرورى أيضًا أن يكون سلوكنا وتعاملاتنا وكلامنا وقيمنا أنيقة.. فعفة اللسان أناقة.. والتهذيب أناقة.. والصوت الخفيض أناقة..والتحدث بلباقة أناقة.. وعدم جرح الآخرين أناقة.. وتختفى الأناقة فى لحظات إذا ما كان هناك علة أو عيب فى اللسان، عندما يتحدث الشخص بالوقاحة، أو البذاءة، أو الفجاجة، أو الألفاظ الخارجة، أو يتعمد الإساءة للآخرين، أو يتهكم عليهم، أو يلجأ إلى فضح أسرارهم.
كل هذه الأمور تلغى الأناقة، وتجعل صاحبها مقيتًا ومعيوبًا، يكره الناس مصاحبته أو التعامل معه أو حتى النظر إليه.. إن اختيار كلماتنا بعناية فى أى موقف هو ذاته نوع من الأناقة الداخلية، والتى بها يكون المرء أنيقًا وفى كامل أناقته.. لكن هذه المقاييس لا يعرفها الكثيرون فى السنوات الأخيرة.. فقد كثر من حولنا استخدام الصوت العالى والضوضاء وعدم مراعاة شعور الآخرين، واستخدام ألفاظ جارحة فى التعاملات.. وأصبح كثير من الموازين فى التعاملات والسلوكيات اليومية الآن مختلة.. ونسى الناس أن هناك أصولًا فى التعاملات مثل: احترام الكبير، والخلاف دون تجريح، والحرص على الآخر.. ودخل فى حياتنا تغليب المصلحة والصوت العالى فى المناقشات.. وكادت القيم أن تختفى فى المعاملات اليومية.. أتذكر أننى فى طفولتى كانت القيادة فى الشارع يحرص فيها الناس على احترام الآخرين فى الطريق.. وكان من «ألف باء» تَعلُّم قيادة السيارات، أن يقال لنا: إن القيادة فن وذوق وأخلاق.
إن مراعاة الآخرين فى سلوكياتنا أناقة وسيرة تعطر اسمنا.. والعطف على الصغير والضعيف نبل فى الأخلاق وليس ضعفًا.. والطيبة فى القلب منتهى الأخلاق، وليست ضعفًا فى الشخصية.. أما قمة الأناقة، فهى أن يكون الإنسان داخليًا أنيقًا.. أى لديه قيم نبيلة، وأن يتحلى بالأخلاق العالية فى تعاملاته مع الآخرين، حتى لو كانوا أقل منه شأنًا أو مركزًا أو مالًا.
من تواضع لله رفعه.. كان أديبنا الخالد الكبير صاحب نوبل العربية، والتى أعتز وأفتخر بأننى عرفته وتعاملت معه عن قرب.. ولن أنسى له أنه قد شجعنى وأثنى على قصصى فى بداية مشوارى الأدبى.. وكنت ألتقى به مع قمم الأدب فى كل يوم سبت فى مكتب الأستاذ الكاتب الكبير الراحل توفيق الحكيم، الذى كان حريصًا على وجودى مع كوكبة من كبار الكتاب بالدور السادس بالأهرام.. والذى سأكتب يومًا عن ذكرياتى فى حضرتهم..كان أستاذنا الكبير نجيب محفوظ قمة فى التواضع فى تعاملاته اليومية، وكثيرًا فى المناقشات عندما نتحدث فى الشأن العام كان يقول: «وأنت ست العارفين بهذا الموضوع». كان يقول هذا رغم حكمته وحنكته، إلا أنه كان يجعل من يتعامل معه يشعر بأن له خبرة وبأنه يقدره.. والتواضع يجعل الإنسان أنيقًا راقيًا، وأيضًا يضاف إلى هذا أن احترام الآخرين الأكبر شأنًا أو سنًا.. هو من شيم النبلاء.. ولكن للأسف الشديد أصبحت الأخلاق الآن فى التعاملات اليومية، وكأنها عملة نادرة، وكأنها نقطة ضعف للشخص الذى يتحلى بها.. وكذا طيبة القلب والعطاء والسماحة والرحمة.. كلها من سمات النبلاء.. وهى نوع من الرقى الذى يضيف للشخصية.. وليس صحيحًا أنها ضعف فيها.
لقد تغيرت المقاييس للأسف فى السنوات الأخيرة، نتيجة عدة عوامل سأذكرها فى مقال مقبل.. لكن علينا كأصحاب فكر وإعلاميين وعقلاء أن نروج، وأن ننحاز للقيم النبيلة، وأن نبقى ونحافظ عليها كسمات فى الشخصية المصرية.. وأهل الفن أيضًا عليهم دور كبير فى هذا الشأن، وعليهم أن يدركوا أن المسئولية المجتمعية تقتضى أن يقدموا أنواعًا من الفنون والثقافة الرفيعة، من خلال تقديم أعمال تعزز القيم النبيلة والرقى والأناقة فى الداخل والخارج فى سلوكيات الناس.
وأن يعيدوا للأناقة بنوعيها أهميتها، حتى لا ينتشر القبح والفجاجة والوهابية فى مظهر المصريين، ويتم طمس أناقة المصريات والمصريين التى اشتهروا بها، حيث كانت الموضة تبدأ من باريس والقاهرة فى نفس الوقت فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى.. إن نظرة واحدة على أفلامنا فى زمن الأبيض والأسود تعكس أناقة أهل مصر وبيوت مصر، وشوارع مصر حتى أبسط بيوت الريف كانت تعكس الحرص على الذوق فى البيت ونظافته وترتيبه.. إن نظرة على فيلم مثل «رصاصة فى القلب» فى مشهد شهير فى حوار بين الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب والفنانة راقية إبراهيم.. يجعلنا ندرك كم حدث تدهور فى الاهتمام بالأناقة الداخلية والخارجية.. ودعونا نستعيد أناقة المصريين لأنها كانت دليل تحضر وحضارة ذات طابع خاص عريق وفريد وجميل نفتخر به ونعتز به حتى يومنا هذا.