رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد عفيفى: أكتب في المقاهى أو على «كنبة» بصالون منزلى (حوار)

محمد عفيفى
محمد عفيفى

يمسك معوله ليكسر تابوهات ويهدم خرافات دست فى تاريخنا الحديث لكنه يخرج فى النهاية سالمًا من كل معاركه واشتباكاته، ولم لا وهو لا يتحدث إلا عن معرفة ودرس وفحص، لا يلجأ لإثارة للفت انتباه، ولا يعرف لأسلوب السب والقذف طريقًا مثل غيره ممن يطلق عليهم «مؤرخون». لا يجد حرجًا فى أن يقول إن جزءًا كبيرًا من التاريخ كُتب عبر «الفهلوة»، ويؤمن بضرورة أن تخضع الأحداث التاريخية لآليات مراجعة دقيقة، لكشف ملابساتها وتناقضاتها، فتخرج الحقيقة للقراء، ناصعة بلا شوائب أو غموض أو تزييف هو الدكتور محمد عفيفى، أستاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة سابقًا، أحد أبرز المؤرخين فى عصرنا الحالى إن لم يكن - بحق- أبرزهم.

يحمل «عفيفى» على ظهره سيرة عطرة، بدأت من شبرا حيث ولد، ومرت بمحطات كثيرة، كان أبرزها فى جامعة القاهرة، أكثر مراحل حياته اعتزازًا. لكن كيف وصل هذا الرجل إلى ما هو عليه؟، وأى طريق سلك؟، وهل المكانة التى يحظى بها فى المجتمع جاءت من فراغ؟
هذه الأسئلة وغيرها نتعرف على إجاباتها معًا هنا.

تعلم حب القراءة من والده.. الأم سر دراسته التاريخ.. وشبرا الحب الأكبر
وُلد «عفيفى» فى حى شبرا الذى استوطنته عائلته منذ سنوات بعيدة، إذ حضر إليها جده قادمًا من محافظة المنوفية بعد ثورة ١٩١٩، والتحق بمدرسة جواد على حسنى الابتدائية فى المنطقة.
هو يعتبر نفسه «ابن شبرا البار»: «أحب شبرا وبيتنا ومنزل أمى هناك وأصدقائى».
كانت النشأة هناك؟
يكشف أستاذ التاريخ عن أن نشأته شهدت زخمًا وتنوعًا ثقافيًا كبيرًا: «نشأت فى أسرة ليست غنية، لكنها كانت محبة وعاشقة للجمال، ووالدى كان عاشقًا للصحافة، وهو من حببنى فى القراءة، وكان يشترى الثلاث جرائد يوميًا الأخبار والأهرام والجمهورية»، وقتما لم تكن تصدر فى مصر إلا هذه الصحف الثلاث».
وورث «عفيفى» عن والدته ملامحها وطيبتها وسمة الحكى التى تحظى بها الأم المصرية، التى اشتهرت بتفوقها فى رواية الحكايات، خاصة التراثية، وانعكس ذلك على مساره العلمى، حيث اتجه إلى دراسة التاريخ، وغاص فى أعماقه وتجلى ذلك فى مسار دراسته وأعماله ومؤلفاته المتعددة، التى رصدت تفاصيل دقيقة من التراث المصرى على وجه الخصوص.
وبعد تخرجه فى كلية الآداب عين معيدًا فى قسم التاريخ، ثم أستاذًا ينتهج منهج البساطة والتواصل الدائم مع تلامذته، خالقًا مساحة كبيرة من الحوار والتفاهم معهم.
ويعتبر «عفيفى» أن اختياره دراسة التاريخ لم يكن قرارًا، بل كان حلمًا شخصيًا راوده منذ كان صبيًا فى المدرسة وقبل التحاقه بالجامعة، حيث رأى أن هذه الدراسة ستلبى طموحه فى معرفة تاريخ البشر عبر الحضارات والعصور.
ومن بين الأعمال التى تعكس ذلك التوجه لديه كتابان يعتبران مرجعًا لكل باحث، هما «الأوقاف والحياة الاقتصادية فى مصر فى العصر العثمانى» و«الأقباط فى العصر العثمانى»، ليغير من خلالهما حالة أو قناعة فكرية سادت فى أذهاننا بأن هذا العصر اتسم بالظلام، ليسلط الضوء على تفاصيل وكواليس تحتم علينا أن نعيد النظر فى هذه الآراء التى تحتاج إلى تدقيق.
ولا يفضل «عفيفى» الحديث عن أسرته، حيث يرغب أن تكون بعيدة دائمًا عن العدسات، وعلى الرغم من أنه لم ينجب، فإنه يعتبر تلاميذه بمثابة أبنائه الذين أنجبهم.

يهوى جمع الطوابع البريدية.. ويستمع لـ«فيروز والحجار وأنغام»
تتنوع هوايات «عفيفى» على عدة مستويات: «هوايتى لم تكن فى الكتابة فقط، لقد أحببت لعبة الشطرنج وتجميع الطوابع البريدية، لكن توقفت منذ فترة، ولم أنغلق على نفسى كما يظن البعض، لقد عشقت الفن والسينما، وتتمثل متعتى فى مشاهدة التلفاز، ولم أكتف بالفن القديم فقط، بل أتابع الأفلام الحديثة وكذلك الأجنبية».
وهو يكسر القالب التقليدى لكتابة المبدعين، الذين يحلمون دائما بحياة تتسم بالهدوء، فيرى أنه لا يحتاج ذلك، لأنه يكتب فى أى مكان، فى غرفته أو مكتبه وكذلك على المقهى، ويفضل الجلوس على «كنبة» صالون منزله، حيث تأتيه الخواطر، كما اعتاد أن يبادر بتدوين كل ما يدور فى ذهنه، ويفضل الوجبات الخفيفة كالعسل الأبيض والخبز والزبادى.
ولـ«عفيفى» منهجه الخاص فى القراءة، حيث يرى أنه لا بديل عن أن يحظى كل منزل بمكتبة صغيرة، لأنه يؤمن بأن «الثقافة تبدأ من المنزل وليس من مكان آخر».
ويعشق «عفيفى» كتابات الأديب العالمى الراحل نجيب محفوظ، حيث دأب على قراءة رواياته المتعددة وربطها بالسياقات التاريخية التى تميزت بها كتابات «أديب نوبل»، إلى جانب مسرحيات توفيق الحكيم وروايات أمين معلوف، وأعمال الكاتب أحمد بهاء الدين والمؤرخ الفرنسى أندريه ريموند.
وهو يعشق المدن الساحلية والإسكندرية بشكل خاص، التى يفضل السفر إليها بشكل مستمر، ويحب الإقامة فى فنادق تطل مباشرة على شواطئها.
وللإسكندرية سر خاص فى قلب «عفيفى»، فهو لا يكتفى فقط ببحرها بل يعشق التجوال بين شوارعها وأحيائها الشعبية القديمة، التى لا تزال محتفظة ببهائها وتاريخها الذى يحب الغوص فى تفاصيله.
وتحول ذلك الشغف لدى «عفيفى» إلى رغبة دائمة فى زيارة البلدان الأوروبية والعربية التى تطل على البحر الأبيض المتوسط، فتعددت زياراته إلى تونس واليونان وإيطاليا، ويفسر سر هذه الرغبة بقوله: «الناس فى الدول الساحلية يتسمون بالسعادة والحياة والبهجة والمرح، وهم مليئون بالحيوية».
«فيروز» هى المطربة المفضلة لدى أستاذ التاريخ، فهو يعشق أغنياتها، وامتد شغفه الموسيقى إلى على الحجار وأنغام ومدحت صالح، بل إنه يفضل أيضًا الاستماع إلى الأغانى الشعبية أحيانًا، لاستطلاع ما تفضله الأجيال الجديدة: «أنا علىّ تواصل مع تلاميذى وطلابى فى الجامعة، وعلى أن أصل إلى طريقة لأفكارهم لخلق جسر من الحوار، هذا دور الأستاذ بأن يصل لعقول تلامذته».


شكك فى «وقفة عرابى» أمام الخديو.. وفند مزاعم يوسف زيدان
خاض الدكتور محمد عفيفى الكثير من المعارك الكتابية والتاريخية، لعل أبرزها مع الكاتب والروائى يوسف زيدان، الذى وصفه بأنه ليس إلا «فرقعة ثقافية»، أو «فقاعة ثقافية»، مشيرا إلى أنه «لا يروق له كتاباته، فهو له بعض الأعمال التى بها حبكة درامية جيدة، ولكن كلامه وكتابته الصحفية والأدبية فى الحقيقة لا تتخطى أكثر من كونها فقاعة ثقافية، حيث أخذ أكبر من حجمه».
وعن تفاعل القراء مع بعض آراء يوسف زيدان، قال «عفيفى»: «ينطبق على ذلك المبدأ الإعلامى الشهير: الخبر ليس أن يعض كلب شخصًا، ولكن أن يعض شخص كلبًا»، مشيرًا إلى أن توصيف يوسف زيدان لصلاح الدين الأيوبى بأنه «أحقر شخصية فى التاريخ» كفيل بأن يخرجه من دائرة المؤرخ والتأريخ، لأن التاريخ لا يُستخدم فيه لفظ أفضل وأحقر، لأنه يعكس انحياز كاتبه، ويحول المادة التاريخية إلى «حكاوى قهاوى».
وتمثلت آخر المعارك التى خاضها «عفيفى» فى إعلانه عن عدم دقة ما ذكر تاريخيًا عن وقفة أحمد عرابى أمام الخديو توفيق، قائلًا: «عندما ذهب عرابى بالحصان إلى الخديو، أمره الأخير بأن ينزل من على الفرس، فنزل لأنه كان عسكريًا منضبطًا، ولم يذكر التاريخ واقعة الوقفة الثورية وخطابه الذى قال فيه: لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارًا».

قدم للمكتبة العربية دراسات تاريخية شاملة.. وحصل على العديد من الجوائز العلمية
جعل «عفيفى» من كتاباته ومؤلفاته استعراضًا بسيطًا لكواليس وتفاصيل التاريخ وأحداثه، فقدم مادة علمية سلسة تحمل كل معانى الواقع، وصنع مدرسة تاريخية أرحب وأوسع فهمًا لأحداث التاريخ ووقائعه، كما خرج من تحت يده جيل من المؤرخين الواعدين.
وألف «عفيفى» ما يمكن وصفه بالمكتبة التاريخية الشاملة المليئة بالمؤلفات، أبرزها «المدرسة التاريخية المصرية» بين عامى «١٩٧٠- ١٩٩٥»، عن دار الشروق ١٩٩٧، و«الدين والسياسة فى مصر المعاصرة» ٢٠٠١، واشترك مع المؤرخ أندريه ريموند فى كتابة «التاريخ المسلسل لحوادث الزمان ووقائع الديوان» أو Le Diwan du Caire، باللغتين العربية والفرنسية عن المعهد الفرنسى للآثار الشرقية بالقاهرة، ٢٠٠٤، إضافة إلى «عرب وعثمانيون، رؤى مغايرة» عام ٢٠٠٥.
كما أشرف على كتاب «خمسون عامًا على العدوان الثلاثى»، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة عام ٢٠٠٧، وألف «المستبد العادل.. دراسة فى الزعامة العربية فى القرن العشرين» عام ٢٠٠٨، و«التاريخ والموسيقى.. دراسات فى التاريخ الاجتماعى للموسيقى»، بالاشتراك مع الدكتورة نهلة مطر، إلى جانب «بروهلفتسييا» عام ٢٠١٣، و«شبرا: إسكندرية صغيرة فى القاهرة» ٢٠١٦.
وتقلد «عفيفى» الكثير من المناصب، وتولى الكثير من الأعمال، كان آخرها رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، فى أغسطس ٢٠١٦، وتولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة من يوليو ٢٠١٤ إلى يوليو ٢٠١٥، ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة بين مايو ٢٠٠٩ ويونيو ٢٠١٤، ومدرسًا للتاريخ الحديث والمعاصر بذات الكلية عام ١٩٨٨، ثم أستاذًا مساعدًا للمادة عام ١٩٩٣.
وحصل «عفيفى» على الكثير من الجوائز العلمية، أبرزها أفضل رسالة ماجستير فى التاريخ لعام ١٩٨٦، مقدمة من الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وجائزة الدولة التشجيعية فى العلوم الاجتماعية لعام ٢٠٠٤، وجائزة الدولة للتفوق فى العلوم الاجتماعية لعام ٢٠٠٩.