رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فراغٌ أبيض بحجم كائنٍ مختفٍ

فؤاد مرسي
فؤاد مرسي



يقول الملف الطبى للمريض محمد سيد عبدالفتاح عاشور، إنه من سكان قرية العبادلة، مركز طوخ، بمحافظة القليوبية، وإنه مصاب باضطراب وجدانى ثنائى القطب، وقد أودع المستشفى بشكل إلزامى بمعرفة والده سيد عبدالفتاح عاشور.
وقد سجلت الملاحظات اليومية للتمريض واعتماد الطبيب المعالج لتلك الملاحظات، أن حالة محمد سيد عبدالفتاح عاشور تتقلب بين رفض تناول العلاج المقرر له، وبين تناوله فى أوقاته بانتظام، ومن الانعزال وعدم الرغبة فى التحدث مع أحد إلى الاندماج والاختلاط بالجميع، بل والثرثرة المفرطة، كما أن الحالة تتأرجح بين التعاون وعدم التعاون مع الآخرين، وبين إهمال النظافة الشخصية لأيام طوال، ثم التحول فجأة إلى مهتم عظيم بهندامه وتسريحة شعره ورائحة جسده، الذى كان يطلق نسائم الـ«وان مان شو» بكثافة تعبر عن عشقه الشديد وارتياحه لهذه الرائحة، حيث يمده أبوه بهذا العطر ضمن محتويات الزيارة الأسبوعية.
كما أن الملاحظات تشير إلى أن محمد سيد عبدالفتاح عاشور كان بشكل عام يزهد فى الطعام، لكن ثمة أيام دُونت فى خانة الطعام بأنه تناول كل الوجبات فى مواعيدها بشراهة.
وينتهى الملف بتوقيع الأب على طلب خروج ابنه بعد تحسن حالته واستقرارها بشكل يمكن من التعامل معها باطمئنان.
وقبل أن يودع محمد سيد عبدالفتاح عاشور المستشفى طلب من أبيه الموبايل، وأمر بالتقاط صورة فوتوغرافية مع الإخصائى الاجتماعى للمستشفى، الذى جمعته به علاقة طيبة، دعامتها حصوله خلسة على سجائر زائدة عن الحصة التى يمنحها له طاقم التمريض ويأذن بها الطبيب.
كان الملف مثيرًا لأعضاء لجنة الطب المجتمعى الوافدة من الوزارة، التى كان من بين مهامها متابعة حالة المريض بعد تحسنه وخروجه، واستبيان مدى اندماجه مع المجتمع وتحوله لشخص طبيعى من عدمه.
انطلق أعضاء اللجنة بصحبة الإخصائى الاجتماعى إلى قرية العبادلة، مسترشدين بالبيانات المدونة على غلاف الملف.
لقرية العبادلة مدخلان، يلتقيان فى وسط البلدة ويشكلان طرفيها كأنهما فرعا النيل اللذان يحوطان الدلتا ويصبان فى البحر المتوسط عند نهاية الخريطة.
من أيهما يدخل الزائر سيصل، لكن منذ بداية المدخل الذى سلكته اللجنة، وسؤالهم المارة عن محمد سيد عبدالفتاح عاشور، وكل من يسمع الاسم ينفى معرفته به أو بمكان سكنه الدقيق فى القرية، نعم لقد تمددت العبادلة وانتفخت أكثر عن ذى قبل واكتست واجهات بيوتها الحديثة بالألوان الجديدة المبهرة، لكن الجميع ما زالوا يعرفون بعضهم البعض، ويمكن لأى واحد من أهلها أن يسرد لك تاريخ القرية وأسماء سكانها واحدًا واحدًا، ومن ترك منهم البلدة وسكن المدينة وأين يسكن بالمدينة تحديدًا، ومن ظل متمسكًا ببيت العيلة فأزال البناء الطينى القديم وغرس مكانه أعمدة وجدرانًا إسمنتية.
أنهت اللجنة المدخل الأول للقرية دون أن تعثر على أثر لمحمد سيد عبدالفتاح عاشور، شقت القرية من منتصفها واتجهت للمدخل الثانى فى شكل نصف دائرة، ولم تجد من تبحث عنه.
كان أكثر الأشخاص حيرة فيما يواجهه هو الإخصائى الاجتماعى، الذى كان يستفسر عن محمد سيد عبدالفتاح عاشور بطرق مختلفة، مرة يصف لهم شكل أبيه، الذى كان يلقاه دائمًا أيام الزيارة، ومرة يصف ملامح محمد سيد عبدالفتاح عاشور بدقة، بلثغته المشهورة وعينيه اللتين لا تكفان عن «البربشة»، لكن الجميع أكدوا أن من يبحثون عنه ليس من سكان العبادلة، ولم يحدث حتى أن سكنت البلدة عائلة تحمل اسم عاشور، وحتى يثبت الإخصائى الاجتماعى للجميع أن محمد سيد عبدالفتاح عاشور من سكان العبادلة كما تقول الأوراق الرسمية وصورة بطاقة الأب، اضطر لأن يخرج هاتفه ويبحث فى ذاكرة الجهاز عن الصورة التى جمعته بمحمد سيد عبدالفتاح عاشور يوم خروجه من المستشفى، تلك الصورة الملتقطة بكاميرا جهاز الأب، والتى أرسلت عبر البولوتوث لجهاز الإخصائى الاجتماعى، لكن حتى هذه المحاولة راحت هباء، فقد كانت الصورة التى توقف عندها الإخصائى الاجتماعى لا يوجد بها أحد سواه، حقيقى أنه يقف فى جانب منها، مما يوحى بأن أحدًا كان يقف إلى جواره ويشغل بقية الصورة، لكن المساحة الباقية لم تكن سوى فراغ أبيض يتسحب بقوة تجاه الإخصائى الاجتماعى ويبتلع جزءًا من جسده.