رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سيدى»

أحمد الباسوسي
أحمد الباسوسي


موجة حنين عاتية استغرقتنى بمجرد أن التقطت عيناى خبر وجوده ضمن الخبراء المتحدثين فى المؤتمر الثقافى الكبير الذى سوف ينعقد فى القاعة الرئيسية للجامعة، فرصة عمرى التى أنتظرها لكى التقيه وجهًا لوجه، أحب على يده وألثمها، بينما عيناى تتأملان تفاصيل هذا الكيان المهيب فى شغف منفلت.
حالة مميزة وفريدة من المشاعر المبهجة استغرقتنى، جمحت بى بعيدًا عن العقل والمنطق، هذا «السيد» لم ألتقه قبلًا فى حياتى، لكن صورته الغائمة التى كان يطل بها من خلال الصحيفة مع مقالاته انطبعت فى ذهنى ووجدانى. كان يبدو شاحب الوجه، جامد الملامح، ذكّرنى بناظر مدرستنا القديمة حينما كان يظهر أمامنا فجأة، ونحن مستغرقون فى اللعب والقفز والصراح والتعارك، يظل يطالعنا من خلال زجاج نظارته الشمسية الغامقة، وملامحه الصارمة الجامدة، ولا ينبس، فترانا نتبخر من فناء المدرسة فى ثوانٍ، نظل نركض حتى يحتوينا الفصل دون أن نجرؤ على النظر إلى الخلف ومطالعة رد فعله، كنا نموت رعبًا من الوقوف أمام هذه الملامح التى تشى بالصرامة والقوة.
صورة «سيدى» فى الصحيفة فى صدر المقال مفعمة بجاذبية مغناطيسية غريبة وغير مفهومة، زلزلت كيانى التواق لحروفه، وجرأته. مقالاته وكتبه التى مرقت بين يدى شغلت مساحات عريضة داخل عقلى وذاكرتى منذ أيام صباى وشبابى المبكر، ودغدغت مشاعرى التواقة دومًا للتفرد والتميز. أفكاره كانت تطير معى فى أحاديث السمر المسائية مع أغبرة دخان السجائر والشيشة على المقاهى مع الأصدقاء، وفى المنتديات الثقافية، ولاحقًا حلقت فى سطورى الورقية والإلكترونية. دائمًا كنت أراه ماثلًا أمام عينى، يقف بهامته المفرودة التى ارتسمت داخلى، يطالعنى من خلال زجاج نظارته الطبية الملون السميك، وأنفه الكبير المقوس، وابتسامة تغرق وجهه الشاحب المشرب بسمرة الطين، تكسو بشرته الخمرية ندوب سوداء غائرة اكتست بهيبة الزمان، والأيام القاسية. لم تكن بدلته التى رأيته يرتديها ذات يوم فى أحد لقاءاته التليفزيونية النادرة مجرد إشارة واشية على عمق أفكاره، وطريقته الفريدة فى الظهور بين الناس فحسب، فقد كانت فضفاضة، كأنها تتسع لفضاء الكون كله، وتتمرغ برحابة عالم بدأ يضيق على ساكنيه، نسيجها الكتانى باللون الزيتى مشقوق طوليًا بخطوط رمادية باهتة صادمة، يظهر من تحتها قميص أبيض مطفى وقد تزين برابطة عنق حمراء زاهية أحكمت تلابيب الرقبة التى نفرت عروقها للخارج، وكشفت عن مدى ساذج من الأناقة والزهو. كان أيضًا بطىء إيقاعه فى الحديث أثناء المقابلة وكذلك سرعة بديهيته، مع تدفق الأفكار والمعلومات التى يرسلها بسلاسة فى اتجاه وجه المذيعة اللامع المدهوش، وقد تركت أحد فخذيها شديد البياض والجاذبية مرتاحًا فوق الفخذ الآخر دون مبالاة، مصدرًا قويًا لتحفيز خيال الصبية الصغار من أمثالى الذين اقترب أوان خروجهم من بوابة مراهقة الجسد المحفزة للحياة والحرية، فى حينها كنا مولعين بالتحدث كثيرًا، وبالحواديت التى تحرر الخيال والجمال وتقاوم جميع السلطات الأبوية القامعة المستبدة. كنا فى هذا الوقت متقدين بالحماس والكلام المحموم عن الحب والحرية والعدل والمستقبل، ونفتش عن خبايا الأمور داخل الصحف والمجلات والكتب التى يجلبها والدى إلى المنزل ليقرأ فيها مثل عادته. كنت أجد متعة كبيرة فى الجلوس مع أبى وأصدقائه، أنصت بدهشة واستغراب لحكاياته عن الناس، والأحوال بينما يتزعم القعدة والمكانة فى تلك الغرفة المهملة من منزلنا، والتى كان يسكنها صالون قديم تم ترميمه أكثر من مرة بواسطة نجار عجوز ثرثار صديق للعائلة وقتئذ، وكان هذا الصالون «القديم» مكتوبًا فى قائمة الزواج التى وقعها والدى ليلة زفافه من والدتى، فى هذه الغرفة احتفظ والدى بكميات هائلة من الكتب والمجلات كان يشتريها ويمضى أوقاتًا طويلة فى قراءتها محتميًا من الضوضاء والشقاوة التى كنت وأخوتى نمارسها دائمًا. باب الغرفة العجوز كان موصدًا دائمًا، ولا يستطيع أحد منا الاقتراب، عندما ينتهى من خلوته يفتح الباب فيصدر صريرًا هائلًا ينتبه له جميع الكائنات داخل البيت، كان للغرفة مدخل خاص على الشارع، ولا يضطر الضيف القادم للمرور عبر مدخل البيت الرئيسى، وكان بابها لا ينفتح سوى للزوار والضيوف من أصدقاء ومعارف أبى وأمى فى جلساتهم داخل منزلنا فى أمسيات الصيف البعيدة، تلك أيام الهدوء والنسمات الرقيقة التى كانت تنسل داخل الناس فتحدث داخلهم حالة فريدة من التصالح والمواءمة مع واقع صعب شديد المراس، وتظل نافذة غرفة المجلس مشرعة ضلفتيها، يملأها أكسجين الصيف البارد المتجدد المنعش لجناحى رئات أولئك الذين أذبلهم غبار السجائر الذى يتدفق بوحشية وشراسة داخلهم، كما يتمكن ضوء المصباح النيون شديد الوهج من النفاذ إلى الخارج، وتنفذ معه أنفاس الحاضرين، وأصواتهم المتداخلة الصاخبة والهادئة فى هدوء. شبح الحنين الجارف تملكنى للقاء الرجل فى قاعة المؤتمر، كأننى كنت مهيئًا للحظة غريبة مدهشة، شعرت بانفلات كامل عن السيطرة على إدراكاتى وربما حركاتى الطوعية، الوعى لدى يتراقص، خيالات الصورة المطبوعة داخل ذهنى تمتزج بمقولات وعبارات قرأتها له وعنه، ينشط معها الحماس والحمية والحنين للقاء شخصية عظيمة مقدسة مصنوعة محليًا فى مصنع أفكارى وخيالاتى ووجدانى، ما زلت أسمع بوضوح إيقاعات ضربات قلبى وهو يتراقص كلما مضى المزيد من الوقت على حتمية اللقاء.
«سيدى» عبارة عن شخصية عظيمة تمكنت من الهيمنة بمنتهى الجبروت، ونصبت من نفسها إلهًا فى داخلى ينبغى أن أقترب منه أكثر فأكثر، وأن أمارس معه طقوس الامتنان والعرفان والخضوع. كأن هذه الخيالات، وطول رحلة البحث والتنقيب والعراك واللهفة الثائرة دومًا للاختلاف كل ذلك انسجم مع لهفتى المزمنة ورغبتى فى تغيير العالم، والقواعد، وتأسيس عالم جديد متطور وقابل للملاءمة فى أحلامى وخيالاتى، وغير مهدد بالارتداد إلى الخلف، عالم ترفرف فوق تلاله وفى سمائه أعلام الحرية والحب والعدالة.
كنت أرى «سيدى» هكذا دائمًا، وهكذا صنعت له نصب إله فى وعيى وفى خيالاتى وفى أحلامى أيضًا، وهكذا اشتقت إلى لقائه وملامسة يديه ووجهه ونيل بركته، وهكذا كان يقول عنه والدى زمان فى حضرة أصدقائه، «إنه نبى هذا الزمان»، لم أفهم هذه العبارة فى حينها، لكننى الآن أعتبره «إله هذا الزمان»، الذى يهتز وجدانى طربًا كلما اقترب زمن لقائه، واقتربت المسافة بينى وبينه. قلبى ما عاد يحتمل هذا الإيقاع المتسارع من التخبيط، تحسست صدرى بكف يدى اليسرى، أحكمت أصابعى جيدًا لكى أمسك به وأمنعه من القفز خارج جسدى، ضرباته القوية تصرخ لتسمع العالم. سيارتى تقترب من مصفتها داخل الجامعة بالقرب من قاعة المؤتمر، قلبى يكاد يقفز خارجى، أصابع يدى نالها الإجهاد والتوتر، حان الآن موعد لقاء الحبيب، سوف التقيه وألثم يديه وأنال بركته، وأتمتع بالنظر إلى عينيه الجميلتين مصدر كل هذه المتعة وعظمة الحياة والعالم.
سوف أحتضن «سيدى» الذى علمنى كيف أكون إنسانًا مثلما أكون الآن، وعلمنى أيضا كيف أن القابض على مبدئه فى هذه الأيام مثل القابض على جمرة ملتهبة من النار لا ترحم. إنه «سيدى» الذى لم ألتقه يومًا ما وجهًا لوجه، لكنى التقيته كثيرًا مع كل حرف خطه، ومع كل فكرة خلقها، ومع كل لقاء إذاعى أو تليفزيونى كان طرفه. من المؤكد أننى أعرفه جيدًا، أحفظ كل تفاصيل خلاياه. لدىّ يقين من المستحيل خلعه أنه يعرفنى جيدًا، وينتظرنى بشغف مثلما أنتظره. عبرت بوابة المبنى الذى ينعقد فيه المؤتمر، فضاؤها الفسيح متروس بالوجوه المألوفة وغير المألوفة، والأسمال الرسمية وغير الرسمية، والأجساد النحيلة والبدينة والعريضة، تفوح روائح التبغ والبارفانات الرخيصة التقليد والثمينة الأصلية تعطر فضاء هذه السوق البشرية العجيبة، اقتربت كثيرًا من لقاء «سيدى» الذى صنعته، فى طريقى عبر الردهة الفسيحة شددت على أيدى الكثيرين، واحتضنت الكثيرين، انفلتت منّى نظرات غريزية حادة الطبع نحو امرأة تبدو أربعينية تتدثر فى عباءة حمراء شفيفة فوق فستان أسود عارى الظهر والصدر، لحم جسدها الأنثوى الناصع الأشهب يصرع عيون أولئك الذين تحلقوا حولها.
مضيت فى طريقى مثبت البصر على روابط العنق والوجوه الرجالى التى تتبدل ألوانها وأشكالها حولى حتى أدركته من بعيد، كان يقف على بوابة القاعة التى سيبدأ داخلها احتفالية افتتاح المؤتمر، بدت القاعة فسيحة، متسعة، لا تزال غالبية مقاعدها شاغرة، والضوء المسكوب داخلها شديد، هرعت نحوه، سبقنى إليه قلبى وتلاحقت ضرباته، قبضت على كفه اليمنى التى كانت متكئة به على الجدار، احتويته فى صدرى، رفعت كفه وقبلتها فى تلهف وخشوع، استوليت على رأسه وأمطرتها بقبلات عاشق ملهوف للقاء معشوقه، أمطرتنى عيناه وبرودة أطرافه بوابل من نظرات ومشاعر الاستغراب التردد. بدا الأمر كأنه لا يعرفنى، كان يتملكنى شعور جارف أنه يحفظ كل تفاصيلى، سحب كفه من حصار يدىّ سريعًا، أنصت إلى صوتى الواهن وأنا أقدم نفسى له على اعتبار أنى من مريديه وتلامذته المخلصين، لم تتغير ملامحه وفق ما كنت أتمنى وأتوقع، تكاثر الناس حولنا، انشغل فى حوار مع امرأة تحدثت معه بأريحية كبيرة، بدا مبهورًا، مهتمًا وسعيدًا بكلامها معه.
وقفت مبهوتًا لدقائق، بينما انشغل يتابع محدثيه الأقرب الذين أحاطوا به، يتباسط معهم فى إلقاء النكات والغمزات والكلام التافه، كأنى انمحيت تمامًا من محيطه على الرغم من أنى ما زلت أقف قبالته، قلبى لا يزال يعزف لحن العشق. طالبنا المنظمون للمؤتمر بالدخول ريثما يبدأ حفل الافتتاح، تسللت من المكان فى هدوء وخيبة أمل زلزلت كيانى، لم يشعر بى، ربما لم يهتم، أخذت معى الغصة، رانت فى الأفق علامات الهزيمة، من موقعى فى الصف قبل الأخير لمحته يتوجه نحو المنصة التى كان يتصدرها ثلاثة رجال، سيادة الوزير الذى سوف يفتتح المؤتمر، ورئيس المؤتمر، وأحد رجالات الثقافة الكبار الذى شغل جميع المناصب الرسمية، وحصل أيضًا على جميع الجوائز الرسمية، تتردد أقاويل كثيرة عن مبلغ نفوذه الجبار فى الوزارة حتى الآن، وعلى الجميع، يبدو فعل الزمن واضحًا على تقاطيع وجهه المنكمشة مثل بطة عجوزة مترهلة تمضى أيامها، الشيب الذى كسى تفاصيله تميز بوضوح فى الحاجبين، شكلت كثافة الشعر الأبيض فوق عينيه الذابلتين قوسين كبيرين مميزين.
أفكار الرجل مشعر الحاجبين وكتاباته والذى كان يجلس على المنصة مثل ثعلب عجوز ماكر فى ثقة متحدية- أثارت الجدل فى توجهها المتين الداعم لكل أنظمة الحكم السياسية على مر العصور، الأمر الذى جعله يحتفظ بسلطاته ونفوذه على مدار العقود الماضية رغم تباين السياسات والتوجهات والأفراد. كنت دائمًا أعتقد أن مثل هذه النوعية من البشر معوقة لحركة الحياة والتطوير والتغير فى المجتمع، هكذا كان «سيدى» يعتقد أيضًا، هذا الأمر انعكس فى دباجته لمقالاته فى الصحف، وفى كتبه الكثيرة، نفس الأفكار ونفس المعتقدات.
لكنه الآن على مرأى من قلبى، ومن عقلى الذى بدأ يتضعضع، طفق يحجل بسرعة حتى بلغ المنصة، قبض على يد الرجل المشعر كثيف الحاجبين، نطلق عليه فى جلساتنا رجل كل العصور، الذى اعتصر الزمن جسده، لم يبق له سوى صوت مميز رخيم، الشىء الوحيد الذى يشى عن وجوده فى عالم الأحياء، بمجرد أن وصل إليه عند المنصة حتى طفق يلثم يديه وخديه ورأسه فى مشهد رآه غالبية الحضور فى الصفوف الأمامية، هذا المشهد وضع حدًا لضربات قلبى، سكتت فجأة، شعرت بدوار شديد، ورغبة فى التقيؤ، لكن الذى حدث قبل أن أدخل فى نوبة الإغماءة الكاملة أنى لمحته ينسل إلى مقعده فى هدوء، أسارير وجهه منبسطة، تكشفها ابتسامة عريضة مريحة، بينما صوت مقدمة الحفل الشابة الجميلة يتردد بزهو داخل القاعة يعلن عن افتتاح المؤتمر، قبل أن يحملونى خارجها لأتلقى إسعافًا أوليًا لعله ينعشنى.
يونيو ٢٠١٩.