رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإفراج عن العقل



قضية حقوق الإنسان اختزلها الحقوقيون، ومن ثمّ تم اختطافها واعتقالها وتقزيمها لصالح قضية واحدة تعنى فقط بالمعتقلين وضرورة الإفراج عنهم، وهى مطالب إنسانية وقد تكون عادلة، ولكن هل الإنسانية والعدالة ترضيان باعتقال العقل وتقويضه؟ أليس اعتقال العقل جرمًا، والمطالبة بتحريره والإفراج عنه حقًا إنسانيًا أصيلًا يندرج أيضًا تحت مسمى الحريات وحقوق الإنسان؟
هل حرية الفكر والاعتقاد لا أهمية لها؟ وجل الأمانى هى الحق فى التظاهر بوصفه الحق الإنسانى الأول، بل والأوحد والأهم من أى حقوق أخرى للإنسان؟ والمدهش فى الأمر تعالى بعض الحقوقيين على حق غيرهم فى اختيار معركة تحرير العقل، ووصل الغبن والتغييب أحيانًا للحد الذى جعل الكثير منهم يتهمون المطالبين بالإفراج عن العقل وتحريره بالخيانة أو التقاعس عن النضال، وبالتالى احتكروا النضال لأنفسهم واحتكروه أيضًا لقضيتهم الصدامية التى انحازوا لها، وكأنها القضية الوحيدة والحق الوحيد المحمود، وصار الإصلاحى وتياره معيبًا وصار الإصلاح مذمومًا، والثورة الدائمة والصدام والأناركية هى الحل.
بل حتى حقوق الفقراء وطلبهم الخبز وغيره من أمور معيشتهم الأساسية واليومية، اعتبرها هؤلاء مطالب فئوية حقيرة صادرة عن جوعى لا يثورون إلا لبطونهم ولا يطيعون أسيادهم الذين يطالبونهم بضرورة التظاهر لإسقاط النظام عندما يريدون هم إسقاطه، كأن الشعب عمال ترحيلة وهتيفة، يعملون لدى المقاول أو الكفيل الحقوقى. فهم بالنسبة لهؤلاء مجرد رقم، أو طاقة عددية، وشهداء تحت الطلب إن لزم الأمر، يتم استخدامهم للتضحية بهم، أو لاستعراض قوتهم العددية أمام من يرونهم أعداء. فالشعب أصبح بالنسبة لهم كالمجاميع فى السينما، عليهم الحضور عند الحاجة وعند الطلب من الريجيسير الذى يوظفهم بالسخرة ودون مقابل، لتنفيذ السيناريو الذى يضعه كاتب الانقلاب أو مخرجه، وعليهم السمع والطاعة، وإلا نعتوا بالجوعى وكلاب السلطة المداهنين. فالمطلب الإنسانى الحر الأوحد من وجهة نظر هؤلاء هو الحق فى التظاهر لإسقاط الدول والأنظمة والأمم.
وهذا الفكر الأحادى اليقينى أصاب البعض، وبالتحديد أصاب أصحاب الصوت الزاعق، وصار شأن هؤلاء هو شأن ملاك الحقيقة المطلقة فى أمور الاعتقاد، فهل فكر هؤلاء الحقوقيون يومًا فى التظاهر من أجل حرية العقل؟ هل نادى أو طالب أحد النشطاء السياسيين بتنظيم مظاهرة لتحرير العقل ورفض طلبه؟
فكل جماعة حقوقية تؤازر أسماء بعينها من المعتقلين، بدعوى حقوق الإنسان، وتسعد بالتدخل الخارجى فى الشأن الداخلى، ولو من عدو صريح، أو مستتر، والبعض منها على استعداد للتعاون مع الشيطان ذاته، لإسقاط النظام، لا لإسقاط شمولية وأحادية الفكر وسلفنته، وفى نفس الوقت يوافقون، بل ويتواطأون على استلاب العقل واحتلاله، ويطالبون الغير بالاصطفاف معهم ومؤازرتهم، لتحقيق مآربهم، ولا يلتفتون هم لقضايا الغير، ولا يعقلون أن لغيرهم معارك وقضايا أخرى، وبالتالى يسقطون حق هؤلاء فى اختيارهم معاركهم، والتعبير عن آرائهم إن خالفت آراءهم، ونسوا أو لم يتعلموا ما علمنا فولتير وتشيكوف ودوستويفسكى وتولستوى وفالجان «تظاهروا من أجل العقل تصحّوا».
ثوروا من أجل تحريره، أفرجوا عن العقل. فالسعودية التى عبرت بحر الظلمات وتحاول الوصول للنور يصف البعض إصلاحاتها بالشكلانية، فى حين أن تلك الشكلانية فى مضمونها وفى حقيقة الأمر تمس تفاصيل الحياة اليومية لقطاع واسع وعريض كان يعانى، وكانت المرأة بالتحديد تعانى كمًا هائلًا لا يُطاق ولا يحتمل من المنغصات والقيود التى تسلب منها حريتها وحقوقها الإنسانية.
أليس حقًا إنسانيًا أن يعيش الإنسان فى أى مكان على هذه الأرض بالطريقة التى تكفل له حقوقه الإنسانية، واحترام آدميته وحرماته وخصوصيته، وأن يسير فى الشوارع والطرقات دون منغصات وضوضاء وإهانة وتحرش وسرقة واغتصاب، ودون شيوعٍ للقبح البصرى والسمعى.. أليست كل هذه المطالب إنسانية وآدمية ولصيقة الصلة بحقوق الإنسان؟
حقوق الإنسان ليست حكرًا على أحد، وليست حكرًا على قضية بعينها، وهى حقوق كثيرة وليست حقًا واحدًا أو حقًا لمجموعة أو جماعة بعينها دون غيرها.