رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

براين ديتمير وإحياء الكتب الميتة



ليس للإبداع حدود، وليس للإبداع مجال معين، فكل جديد يُظهر ما خفى من جمال هو إبداع، وأن نستطيع أن نجعل الناس ينظرون للمألوف والمعتاد نظرة جديدة هو إبداع، وأن يصل الفنان إلى سر وروح المادة التى يعمل عليها ويطوعها لجماليات فنية ورؤى خلاقة هو إبداع. وقد اعتاد الناس على قراءة الكتب منذ جعل «جوتنبرج» من الكتب والورق المطبوع سلعة شعبية متاحة لأكبر عدد من الناس، وعلى الرغم من أهمية الكتب كمصدر أساسى للمعرفة، وأنها الفأس القادرة على شق البحر المتجمد فى عقولنا، إلا أن مبدعًا رأى فى الكتب شيئًا مختلفًا، استطاع أن ينظر للكتب المرصوصة على أرفف المكتبات على أنها مادة خام قابلة للنحت، «الكتب مادة للنحت!!» مثل الجرانيت والحجر والنحاس و.. و..
نعم.
وهنا تكمن قدرة المبدع على أن ينظر للمألوف بطريقة غير مألوفة.
فقد ابتكر الفنان الأمريكى براين ديتمير، ٤٥ سنة، فنًا جديدًا، عبر تحويل الكتب القديمة إلى تحف فنية.. يقوم براين ديتمير باختيار الكتب القديمة والموسوعات، ثم يقوم بختم حوافه الكتاب بالورنيش السميك لتشكل طبقةً على السطح الخارجى له فيصبح مادة صلبة، ولكن تبقى الصفحات فى الداخل كما كانت ورقية، وبعدها يبدأ فى نحت سطح الكتاب، ولا يزيل أو يضيف أى شىء. فقط ينحت حوله كل ما يثير اهتمامه. فهو مهتم بالنص والصور الموجودة فى الكتاب تمامًا كما يهتم بغلاف الكتاب.
يقول «ديتمير» فى أحد أحاديثه: «أحد الأشياء التى أقوم بها عند النحت فى الكتاب ليس التفكير فى الصور فحسب، ولكن أيضًا فى النص، وأفكر فيهما بطريقة متشابهة جدًا، لأن المثير للاهتمام هو أنه عندما نقرأ نصًا ما، عندما نقرأ كتابًا ما، فإنه يضع صورًا فى أدمغتنا، لذلك نحن كمن يرُصُّ تلك القطعة. فنحن نوعًا ما نخلق صورًا عندما نقرأ نصًا ما، وعندما ننظر إلى صورة ما نقوم باستخدام اللغة من أجل فهم ما ننظر إليه. فهناك شىء يحدث كعلامة «اليين واليانغ»، شىء متقلب. فأنا أصنع قطعةً يكملها المشاهد بنفسه».
يُلقب «براين» بجراح الكتب، ويستخدم العديد من الأدوات الطبية كالمشرط والملاقط، كما يستخدم المشابك والحبال وجميع أنواع المواد والأوزان من أجل تثبيت الأشياء فى مكانها، قبل أن يضع الورنيش، ليتمكن من تحديد الشكل قبل أن يبدأ النحت، ليحول الكتب القديمة مثل الروايات والكتب الدراسية والموسوعات إلى تماثيل ولوحات فنية.
وينظر «براين ديتمير» إلى عمله كنوع من إعادة المزج، بنفس الطريقة التى قد يعمل بها منسق موسيقى لموسيقى شخص آخر. فهو يخرج الكتب القديمة من إطارها التقليدى إلى شىء جديد وأكثر عصرية.
وقد اختار الكتب لأنه ينظر إليها ويتعامل معها على أنها كائنات حية، لديها القدرة أن تستمر فى النمو، وتستمر لتصبح أشياءً جديدة، هو يعتبر الكتاب كجسد، وكتقنية، وكأداة، وكآلة، وكذا كمنظر طبيعى. كما أنه لا يخشى على عكس كثيرين من فكرة أن الكتاب سيختفى فى يوم ما.
يقول: «يعتقد الناس أنه نظرًا لتوافر التقنية الرقمية اليوم، فإن الكتاب سيموت، ونحن نشهد اليوم على تغير الأشياء وتطورها. أعتقد أن الكتاب سيتطور، وكما قال الناس من قبل إن الرسم سيموت عندما أصبح التصوير والطباعة من الأمور اليومية، ولكن الواقع إن ذلك جعل الرسم يخرج من رتابته. من دوره كراوٍ للتاريخ، ليتحرر فيروى قصته، وهى لحظة ولادة الحداثة، وشهدنا كيف تفرع الرسم إلى فروع مختلفة. وأعتقد أن هذا ما يحدث مع الكتب الآن، مع تحول معظم تقنياتنا ومعلوماتنا ومعظم سجلاتنا الشخصية والثقافية لتصبح رقمية، أصبح بمقدور الكتاب ان يتحول لشىء جديد. لذلك أعتقد أنها فترة مثيرة للغاية لفنان مثلى، أن يراقب ما سيئول إليه الكتاب مستقبلًا».
تقودنا تجربة «براين ديتمير» إلى تأكيد استمرار أهمية الكتب وكذلك تأكيد تغير المفاهيم الجمالية والبصرية مع تغير العصر لدى الفنان والمتلقى معًا، فلم يعد النحت محكومًا بخامات الجرانيت أو الحجر والمعدن أو ما شابه ذلك، وليس هناك أفق محدد لتمرد الفنان على الأنماط الفنية السائدة، فما دام الفنان يستطيع التجريب فيمكنه التمرد وتقديم المزيد من الحلول الفنية المتعددة، فكل خامة يمكن أن تستغل فى فنون ما بعد الحداثة، ويمكن محاولة الاستفادة من كل ما يحيط بنا لتقديم مشاهد جديدة للقطع الفنية.