رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عرض مستمر من التآمر وأشياء أخرى بحق الجيش العراقى



لم تكتفِ إيران بمساحات النفوذ والسيطرة على الساحات السياسية وغيرها فى داخل العراق، حتى توعز لإحدى أذرعها النشيطة «يوسف الناصرى» الشخصية البارزة بميليشيا «حركة النجباء»، بأن يخرج بتصور «متكامل» وليس تصريحًا طائشًا أو عابرًا، كما تحاول المكونات الرديفة تصوير ما قاله، بغرض امتصاص حالة الانزعاج الشديد التى اعترت المؤسسة العسكرية العراقية، والعديد من المؤسسات، فضلًا عن شريحة ليست بالقليلة من الرأى العام الداخلى.
«يوسف الناصرى» هو رجل دين شيعى؛ بكل ما تحمله تلك الصفة داخل المذهب من نفوذ وتأثير، بل واعتماد آراء تلك الفئة، وفق آلية المرجعيات باعتبارها توجيهات واجبة النفاذ. هذا يضع بعدًا إضافيًا للتصور الكارثى الذى لم يكن الرجل ذاهلًا ولا مرتبكًا وهو يطلقه، فهو تحدث فى قناة تليفزيونية عراقية فى ١٣ من الشهر الجارى، قائلًا: «أطالب بإعادة بناء الأجهزة الأمنية من جديد، وأطالب بحل الجيش العراقى. وباعتبار الحشد الشعبى هو الجيش الأول فى العراق، وليس رديفًا، ليكون هو وزارة لحماية أمن ومستقبل العراق استراتيجيًا. لسنا بحاجة إلى مَن يتقاضى ألف دولار لكى يكون جنديًا، وعندما تقع حادثة يلقى وملابسه وبندقيته ويهرب، فجيش كهذا مرتزق وليس أصيلًا». تلك هى الرؤية؛ والمستهدف منها الدخول إلى جدل وتعثر وضع «الحشد الشعبى» داخل مكونات الدولة الرسمية، فى شقها الأمنى والعسكرى، ولذلك لم يخفِ الناصرى ضرورة اعتبار «الحشد الشعبى» هو جيش الدولة الرسمى، وتكرار ممارسة الخطيئة الكبرى السابقة، التى قضت بحل الجيش الوطنى للدولة. ربما فى المرة السابقة فُرض الأمر من قوة احتلال مباشر «الولايات المتحدة»، وعقب هزيمة فى معركة غير متكافئة بأى مقياس، لكنها اليوم تدفع بأيادٍ عراقية لتنفيذ مخطط إيرانى فاضح لا لبس فيه.
«حركة النجباء» هى أحد المكونات الرئيسية، وأكبر فصائل «الحشد الشعبى» بالعراق. وتعد بامتياز مكونًا «مسلح» عابرًا للحدود، وفق المهام العسكرية التى عهدت إليها داخل العراق وخارجه منذ تاريخ تأسيس الحركة. وهى تتشكل من ثلاثة ألوية رئيسية؛ «لواء عمار بن ياسر»، و«لواء الإمام الحسن المجتبى»، و«لواء الحمد». ويقود تلك الحركة «أكرم الكعبى»، الذى كان أحد مؤسسى جماعة «عصائب أهل الحق» العراقية قبل أن يغادرها، فى توسع تنظيمى للمكونات المسلحة «الشيعية»، ليتولى بمفرده قيادة «حركة النجباء» التى كان من المستهدف أن يصل تعدادها إلى «١٠ آلاف مقاتل»، وقد وصلت فعليًا إلى هذا الرقم منذ سنوات قبل أن تتجاوزه لتصل اليوم إلى ما يقارب الـ«٢٥ ألف مقاتل». جرى ذلك خلال إسناد مجموعة من المهام العسكرية إلى الحركة، داخل الأراضى السورية، والمسجلة باسم الحركة، حيث شكلت قوة الإسناد الرئيسية المسلحة التى قامت بالسيطرة على الأجزاء الشرقية من مدينة حلب، شمالى سوريا فى أواخر عام ٢٠١٦. كما أن الحركة أبقت فى سوريا لواءى «عمار ابن ياسر» و«الإمام الحسن المجتبى»، اعتبارًا من العام ٢٠١٣ ليتنقلا وينفذا عمليات وإعادة تمركز وانتشار على أكثر من جبهة، التى كان منها فك الحصار عن مدينتى «نبل والزهراء» الشيعيتين، الواقعتين شمالى حلب بعد أن ظلتا محاصرتين من قِبل فصائل المعارضة السورية المسلحة لمدة طويلة. كما أرسلت الحركة ألف عنصر من مقاتليها إلى جنوب حلب، لتدعيم سيطرة قوات الحكومة السورية بعد تحرير المنطقة من المعارضة المسلحة.
تلك المهام التى تولتها الحركة على الأراضى السورية، والتى أدت معظمها بنجاح وبدعم عسكرى واستخباراتى من النظام السورى والروس فى بعض المهام، جعلت «حركة النجباء» تتمتع بعلاقات وثيقة ومتقدمة فى أشكال التعاون، مع «حزب الله» اللبنانى ولدى «قاسم سليمانى»، الذى يتولى مهام التنسيق العملياتى لتلك الأذرع المسلحة، متعددة الجنسيات التى تتشارك فى المذهب والولاء ومرجعيات المهام المنفذة على الأرض. لكن هذا وفى جانب آخر، دفع الحكومة الأمريكية إلى إضافة الحركة العراقية إلى لائحة الإرهاب فى مارس ٢٠١٩، نظرًا إلى تنامى دورها فى صناعة الجسر، ما بين إيران وسوريا عبر دولة العراق. وترصد الاستخبارات الأمريكية خلال العامين الماضيين، حجم التنامى والتغلغل الذى بدأت الحركة تحظى به داخل المؤسسات الرسمية العراقية، ونفوذها أصبح باديًا للعيان بالقدر الذى أصبح يتقاطع بقوة، مع المصالح والخطط الأمريكية، التى على رأسها بالطبع محاولات تقليص الوجود الإيرانى داخل المكون الرسمى العراقى على الأقل، وهى مهمة صارت صعبة المنال إلى حد بعيد، بدليل هذه المخططات الجديدة والمتقدمة التى سمحت للحركة بالحديث عن الجيش العراقى بهذه العلنية، قفزًا على كل الاعتبارات السياسية التى لا تسمح افتراضًا بالوصول إلى تلك المرحلة، خاصة من مكون «مسلح» معلوم أنه حتى اللحظة هو خارج سياق الدولة والقانون الطبيعى فى أصل وجوده.
لكن حقيقة الأمر، وربما فى القلب من المشهد الراهن، فإن مفهوم «الجيوش الوطنية» أصبح فى حد ذاته هو المستهدف خلخلته، عبر التوسع الكبير فى استخدام «فاعلين مسلحين» من غير المكونات الوطنية الطبيعية، وأن القواعد العسكرية النظامية والضوابط الوطنية التى تتحلى بها الجيوش عادة، أصبحت يُسحب البساط من تحت أقدامها فى العديد من المناطق، لصالح الولاء للطائفة والمذهب والعقيدة الدينية أو المناطقية والعرقية، وهذا حاضر بقوة على أكثر من ساحة عربية على وجه الخصوص. وظهور رجال الدين وتقاطعهم على خط مثل تلك الأطروحات والمخططات، يتناغم بقوة مع هذا المستهدف، وهو ليس مقصورًا على المذهب الشيعى، رغم بروزه الواضح فيه، لكن يجتمع معه كل من يضع المرجعية الدينية كمكون معطل لمفهوم «الدولة الوطنية»، كما جرى الأمر فى نموذج «جماعة الإخوان» فى مصر وغيرها من البلدان، لتجد الجيوش الوطنية هى العدو الأول لها، ومرمى استهدافها الرئيسى فى حال التمكين.
فى العراق النموذج متقدم، والرؤى متجاوزة بالطبع، وهذا ما دفع الغالبية إلى استنكاره، لكنه ناقوس عالٍ للخطر ولتفاصيله، وإلى مدى يمكن أن يمتد أو يخطط، أو أن نستيقظ على مشاهد ملتبسة ومعقدة يمكنها أن تداهم الغافلين.