رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النائب العام وذكرى أيام مضت


يكتب التاريخ الأحداث والوقائع، ويكتب المتخصصون العلم والفقه والدراية المتعلقة بالأحداث والوقائع، وقد كتب التاريخ أن محمد مرسى، الذى تقلد منصب رئيس البلاد ذات يوم كئيب، قرر ذات يوم أكثر كآبة أن يطيح بالنائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، كان ذلك فى يوليو من عام ٢٠١٢ وما أدراك ما يوليو ومفاجآت يوليو!!

لكنَّ المدعو مرسى وضع قراره الفج فى ورقة سوليفان ناعمة، حيث جعل قرار العزل وكأنه ترقية بأن أسند إلى المستشار عبدالمجيد محمود وظيفة سفير مصر فى الفاتيكان، وعندما رفض النائب العام هذا القرار، ووقف قضاة مصر كلهم معه فى هذا الرفض، بل وثارت ثائرة قضاة مصر كلهم جميعًا ضد هذا التصرف الشائن من مرسى، سليل الإخوان، وحفيد تلك الطغمة الفاسدة، التى جعلت من الإسلام غنيمتها، للحصول على الدنيا، ولأن لا مرسى ولا جماعته لم يكن فى مقدورهم آنذاك تمرير قرارهم، فقد تراجعوا مؤقتا حتى حين، إلى أن جاء نوفمبر، وما أدراك ما نوفمبر وخريف نوفمبر! ولم يحسب مرسى حسابًا لخريف الغضب، الذى يكون مصاحبًا لنوفمبر، فأصدر قرارًا بعزل نائب عام مصر عبدالمجيد محمود، وتعيين بدلًا منه نائب عام خصوصى أو ملاكى للإخوان اسمه طلعت عبدالله كان من إخوان طنطا، ويعمل فى قسم القضاة بالإخوان!.

ومن أجل ذلك القرار بحث المدعو مرسى عن مبررات واهية يغلف بها قراره، ولكن هذا القرار المستبد كان يمثل خرقًا للقانون والدستور، بل إنه يعد سابقة لم تحدث من قبل، لذلك كان الرأى القانونى، الذى كتبه المتخصصون، يضع هذا القرار فى الدرك الأسفل، أما التفصيل القانونى الفقهى لما حدث فيدور حول أن مرسى، الذى ترأس البلاد فى إحدى اللحظات الفارقة من تاريخ الأمة، قام بالقسم على احترام الدستور والقانون، وقد كان قسمه هذا بمثابة توقيعه على عقد «رئاسة الجمهورية» بحيث إذا أخل به سقط حقه فى الاستمرار فى موقعه كرئيس للبلاد. وبالمخالفة للدستور الذى أقسم عليه والقانون الذى تعهد بالمحافظة عليه وتطبيقه على الكافة صغيرهم وكبيرهم، فوجئ المصريون جميعًا، عصر الخميس، الحادى عشر من أكتوبر ٢٠١٢ بالرئيس المدعى عليه يصدر قرارًا بإقالة النائب العام من منصبه وتكليفه بوظيفة أخرى «سفير مصر فى الفاتيكان».

وقد كانت الأحداث، التى سبقت هذا القرار، جد مؤسفة، ففى الوقت الذى أصدرت فيه محكمة مصرية ذات قدر قضائى وقيمة عدلية كبيرة حكمًا لم يرق للبعض فى تلك القضية التى أطلق عليها إعلاميًا «موقعة الجمل»، إذ بمن يريدون تصفية ثاراتهم والانتقام من النائب العام يزعمون أن البراءة التى حصل عليها المتهمون إنما كانت بسبب النائب العام، وقد كانت هذه المزاعم الكاذبة تكئة من أفراد جماعة الإخوان غير الشرعية لتمكين محمد مرسى من إصدار قراره السالف، ذلك أن التحقيق فى قضية موقعة الجمل لم تكن للنيابة العامة علاقة به من قريب أو بعيد، إذ المعروف أن رئيس وزراء مصر الأسبق أحمد شفيق هو الذى أصدر أوامره لوزير العدل الأسبق بتحريك هذه القضية، فقام وزير العدل آنذاك بانتداب قضاة تحقيق قاموا هم وحدهم دون غيرهم بالتحقيق وجمع الأدلة. ورغم أن كل هذا لا يجيز إقالة النائب العام، التى تسترت فى البداية خلف قرار تعيينه فى وظيفة «سفير»، إلا أن المدعو مرسى استثمر حكم البراءة ليكون سنده فى قراره المنعدم، بل والأكثر من هذا قامت جماعة الإخوان بتنظيم مظاهرة ضخمة فى ميدان التحرير يوم الجمعة الموافق الثانى عشر من أكتوبر لتكون دعمًا لقراره، وقامت هذه المظاهرة، كما هو معروف، بالتعدى على المتظاهرين من غير الإخوان بالضرب المبرح.

ولكن هل تعلمون موقف النائب العام عبدالمجيد محمود وقتها؟ أقول لكم لكى يظل التاريخ متذكرًا تلك الأيام، ولا يطويها فى غياهب النسيان، فقد أصدر عبدالمجيد محمود بيانًا، ولكنه لم يكن بيانًا عاديًا، بل كان لطمة مدوية على وجه من تاجروا باستقلال القضاء، إذ أورد فيه أن شخصيتين بارزتين من رجال القضاء هما وزير العدل وقتئذ أحمد مكى، ورئيس محكمة النقض حينئذ حسام الغريانى، ساوماه على قبول قرار الرئيس مرسى وإلا تعرض للاعتداء من قبل المتظاهرين، مذكرين إياه بما حدث للفقيه القانونى الأكبر فى تاريخ مصر الدكتور عبدالرزاق السنهورى، حينما كان رئيسًا لمجلس الدولة، وحدث اعتداء عليه بالضرب فى مقر مجلس الدولة عام ١٩٥٤، ثم أورد النائب العام فى بيانه أنه لم يرضخ للتهديدات، التى وصلته من هاتين الشخصيتين القضائيتين، ويبدو أننا وقتها كنا فى زمن اختلطت فيه المعايير وانتهكت فيه الأخلاق والقيم، إذ إن من قام بتهديد النائب العام هما من رموز تلك المجموعة التى أطلقت على نفسها مُسمى «رجال استقلال القضاء»، فأصبح الذى ينتهك استقلال القضاء ويدعو للتعدى عليه هما من يدافعان عنه ظاهرًا، وسبحان الله الذى يكشف الزيف ولو طال به الزمن. وكأن الغريانى، الذى جلس على مقعد رئيس محكمة النقض، لا يعلم أن الدستور المصرى يضع قاعدة إلزامية، مفادها أن رجال القضاء والنيابة العامة غير قابلين للعزل، فإذا كان هذا هو المستقر عليه، وهو الذى لم يحد عنه النظامان القضائى والسياسى فى مصر، عبر العصور السابقة، فإن القرار الخائب، الذى صدر عن المدعو مرسى بعزل النائب العام، يكون قد أهدر تلك المبادئ واعتدى عليها وجعل من رئيس الدولة مهيمنًا على القضاء، متصرفًا فى شئونه، وهو الأمر الذى لم تكن له سابقة من قبل.

كانت هذه هى كلمة القانون، قال بها الفقهاء والخبراء فى كل مكان، وكتبها بعضهم كمقالات بحثية فى الصحف، وشرح بعضهم تفصيلاتها فى القنوات التليفزيونية، ورفع بعضهم بها دعاوى أمام المحاكم يردون بها غلواء السلطة فى مواجهة القضاء، وفى كل هذا كان الشعب متفاعلًا مع القضاة، تؤججه نار الغضب، ولكن أصحاب السلطان كانوا فى غيهم يعمهون.

والحق أن القضاة لم يكونوا وهم يواجهون جماعة الإخوان بمعزل عن الشعب، فالقائد الذى ينعزل عن أمته لا تأثير له، ولا جدوى من جهاده، فأنت حيث أنت بمقدار تأثيرك فى شعبك، وفى مصر كان بمقدور القضاة أن تكون حركتهم فردية، احتجاج هنا، واعتراض هناك، واستياء من هذا وذاك، ولكن هل من شأن هذا أن يحرك أمة ويثير حميتها؟! لذلك فإن وجود نادى قضاة مصر فى هذه الآونة، بحركته الجمعية وتأثيره الجمعى أبلغ الأثر فى تفاعل الشعب معه، كان المستشار الزند قد خرج من نطاق التأثير الإيجابى المحمود على زملائه القضاة إلى نطاق الزعامة الشعبية، وقد اعتبره الشعب قائدًا شجاعًا يفتح صدره لنيران الإخوان غير هياب أو مضطرب، ولأول مرة يصبح أعضاء نادى القضاة نجومًا عند الجماهير، ولا يمارى أحد فى أن نادى القضاة حين تحرك، ترك أثرًا كبيرًا فى جموع القضاة فى كل مصر، فتحركوا صوب المواجهة، وحين تحركوا تحرك شعب بأكمله، لذلك ونحن نرصد حركة قضاة مصر ضد الإخوان فإننا يجب أن نرصد مدى تأثر الشعب بهم، وإلا كنا كمن تحدث عن الفعل ثم سكت عن أثره، مع أن الفعل لا يكتمل إلا بأثره.

نعلم بطبيعة الحال أنه كانت هناك حركة إخوانية مغلقة منظمة تتحرك ضد الشعب، وتحاول أن تخلق رأيًا عامًا يناصرها، إلا أنهم كانوا لا يعلمون أن من يتحرك وهو منغلق على ذاته لا يمكن أن يحدث أثرًا ما، كما أن من يتحرك ضد شعبه لا يمكن أن يكسبه فى صفه، فأنت تستطيع أن تخدع شعبك بعض الوقت حين ترفع الشعارات، ولكنك ستفشل فى الاستمرار فى خديعته حينما تناوئ رغباته الحقيقية، وتسعى إلى تحقيق طموحاتك الشخصية، أما حركة القضاة فإنها كانت حركة مبصرة، لم تكن أبدًا حركة حزبية معبرة عن حزب أو فصيل سياسى، ولكنها كانت حركة وطنية معبرة عن كل الوطن، لذلك كانت منفتحة على كل القوى الوطنية، تعمل على توطيد أركان الدولة الوطنية التى يتغياها الشعب، فتحرك الشعب معها، وجماعة الإخوان فى غفلتهم سامدون.

من أجل ذلك كنت تجد الشعب وهو يلتف حول القضاة فى كل مواقفهم، فيحضر ممثلون عنه فى الجمعيات العمومية لنادى القضاة، وتخرج تظاهرات مؤيدة لهم فى كثير من الميادين رغم تهديدات ومناوئات ومناوشات جماعة الإخوان الإرهابية لهم، بل إنك من اللحظة الأولى للمواجهة كنت تجد أفرادًا عاديين من الشعب يقيمون دعاوى قضائية ضد قرارات محمد مرسى، تضامنًا مع القضاة والقضاء، ومنها ما فعله بعض المواطنين حينما أقاموا دعاوى ضد قرار عزل النائب العام أمام المحكمة الدستورية بحسب أن قرار محمد مرسى يمثل عقبة فى تنفيذ حكم الدستورية، وفى كل هذه الدعاوى كان عدد كبير من المحامين يحضر مترافعًا رغم ما تعرضوا له من عنف تلك الجماعة الإرهابية، ولا أخالنى أنسى ما تعرض له الفقيه القانونى الكبير الدكتور على الغتيت عندما كان يترافع أمام المحكمة الدستورية ضد قرار محمد مرسى، فإذا بعدد من الإخوان، منهم ناصر الحافى وعبدالمنعم عبدالمقصود، يعتدون عليه، ولم يكن الدكتور الغتيت وحده بدعًا من المحامين والمواطنين، ولكن كان هناك العشرات من رموز القانون والعمل الوطنى، منهم عصام الإسلامبولى، المحامى الفقيه، وشحاتة محمد شحاتة، الشاب النابه الوثاب، ومن محافظات مصر كلها كنت ترى عشرات المحامين وهم ينتفضون دفاعًا عن صرح القضاء فى ظاهرة لم تحدث فى تاريخنا من قبل، ولا أظن أنها حدثت فى تاريخ أى أمة من الأمم، ففى مصر رجال لا مثيل لهم فى العالم، تظهر معادنهم فى الشدائد، ويتحركون عن قناعة لإرضاء ربهم وضمائرهم.

ومن الذين صدحوا بكلمة الحق الأستاذ رجائى عطية، المحامى الكبير، الذى أكد، فى العديد من اللقاءات والحوارات، أن إقالة النائب العام باطلة وغير قانونية وتؤدى إلى انهيار الدولة وتمس استقلال القضاء، مشيرًا إلى أن النائب العام أعلن أنه ما زال فى منصبه ولم يرضخ للإقالة، وفى ذات الوقت أصدر نقباء النقابات الفرعية للمحامين بيانًا وقعوا عليه يستنكرون فيه قرار محمد مرسى ووصفوا قرار الإقالة بأنه اعتداء صريح على استقلال القضاء، وأشار إلى أن النائب العام لا علاقة له بشأن تباطؤ إجراءات محاكمات قتلة الثوار ولا يمكن للقضاء أن يحركه ميدان التحرير أو أى ميدان آخر وإن حدث «فهى بادرة لفوضى تهدم دولة القانون». بينما وصف محمد عثمان، نقيب المحامين بشمال القاهرة، مسألة إقالة النائب العام بمثابة إهانة لجميع الهيئات القضائية وعدوان على استقلال السلطة القضائية.

وفى مؤتمرات نادى القضاة وجمعياتهم العمومية كانت نقابة المحامين تهرع للنادى مؤيدة له فى مواقفه، مؤازرة له فى قراراته، بل إنها عقدت العشرات من الوقفات الاحتجاجية على أبواب نقابة المحامين، ودخل عدد من المحامين فى اعتصام داخل نقابتهم، وقرروا عدم فض هذا الاعتصام إلا بعد أن يستجيب مرسى لطلبات القضاة ويعدل عن قراره الفاشى المستبد، وحدِّث عن باقى النقابات المهنية التى نجت من سطوة الإخوان، وكذا عن الأحزاب السياسية التى تجردت من حزبيتها وانطلقت إلى الثوابت الوطنية، التى لا مجال للتفريط فيها، حتى أصبح الحديث بين الناس عن قرار مرسى هذا وتعديه على السلطة القضائية هو حديث الناس من كل الطبقات، ولا أظن أن هذا حدث من تلقاء نفسه، ولكن لأن نادى القضاة قاد معركة قوية خرج بها من أسوار المحاكم وقاعاتها إلى الشارع المصرى بعفويته وفطرته.

ولكن ما الذى حدث بخصوص قرار عزل النائب العام؟ هل ظل معزولًا؟ اعلموا وقولوا واكتبوا أنه فى شهر يوليو من عام ٢٠١٣ أصدرت محكمة النقض المصرية حكمها ببطلان قرار عزل النائب العام عبدالمجيد محمود وعودته لموقعه القضائى السامى، نائب عام دولة مصر، فعاد المستشار إلى موقعه من أجل إقرار مبدأ استقلال القضاء، ثم ما لبث بعد بضعة أيام أن قدَّم استقالته مختارًا، ليتم تعيين المستشار هشام بركات نائبًا عامًا خلفًا له.

الآن نستطيع القول إن قرار محمد مرسى بإقالة النائب العام عبدالمجيد محمود كان هو أحد المسامير التى تم دقها فى نعش تلك الجماعة، أو قل كانت البداية الحقيقية لإنهاء حكم الإخوان، فتلك الجماعة فى كل أطوارها لم تكن تؤمن بالشعب، ولم تفكر فى العمل من أجله، ولكنها كانت تؤمن فقط بنفسها والعمل من أجل مصالحها، ويخدعون فى ذلك الأتباع الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا بوهم أن تلك الجماعة تعمل من أجل الإسلام! والواقع يقول إنها تاجرت بالإسلام وجعلته وسيلتها للحصول على الدنيا، أما أكبر دليل على ذلك فهو أنه لم تقبل أن يظل هشام بركات نائبًا عامًا، فاغتالته وكأنها تنتقم فيه من كل رجال القضاء، ومنذ شهرين كانت ذكرى استشهاده، فرحمة الله على هشام بركات، النائب العام السابق، شهيد القضاء، وشهيد مصر كلها.