رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هنا كشمير.. "الدستور" على أبواب أرض الحرب بين الهند وباكستان

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كان كل شىء عاديًا حتى ظهر برهان وانى، وذاكر جناح.
فى نهاية ٢٠١٦ كنت أستعد لرحلة إلى كشمير بلا حقائب وبأخف أوزان ممكنة، قابلتُ محمد ياسين، وهو شاب مسلم انتقل من كشمير إلى دلهى هربًا من «الحرب الصامتة» هناك، قال لى إن «أهم شىء أن تهرب حين يطاردك المتمرّدون الإسلاميون، وأن تسلِّمَ نفسك حين تقع فى منطقة عسكرية». التفتيش عن أسرار «الحرب الصامتة» بين الهند وباكستان يقتضى أن تذهب إلى هناك وتسمع قصص و«خرافات» كل الأطراف حتى تستقرّ على رأى.
تحرّكنى دائمًا رغبة فى تتبّع إجابة السؤال الصعب: هل تضرب باكستان الهند بالسلاح النووى؟.. وهل تجتاح الهند باكستان بجيشها الجبَّار؟
تجلَّت أمامى ذكريات الرحلة إلى «مغارة الأوغاد» حين هدَّدَتْ الدولتان بالحرب ردًا على قرار الهند حرمان كشمير من «الحكم الذاتى»، مطلع أغسطس الجارى، فدارت مواسير البنادق، وانطلقت المدفعية الثقيلة لتسوية الأمر بعيدًا عن «تشنجات الدبلوماسيين».
حربٌ مزمنة، ومستمرة، ولا تنتهى حيث لا تملك أى وسيلة إعلام مراسلًا أو كاميرا داخل الإقليم الغامض منذ سنوات: مكاتب الوكالات والصحف مغلقة، الغرباء «وليس الأجانب وحدهم» ممنوعون من الدخول، شبكات التليفون «مقطوعة إلى الأبد»، ودوريات الأمن تخفى مَن يتورّط فى تسريب معلومة واحدة داخل سجون «تحت الأرض»- طبقًا لروايات أهالى الضحايا-.. بينما حصار أسئلة يدفعك إلى مغامرة غير آمنة داخل «كهف الصلوات والمخابرات»، الذى كان- وقتها- يشبه ما يجرى فى سوريا والعراق، وربما يكون ما جرى على خرائط الشرق الأوسط امتدادًا لما جرى ويجرى فى كشمير.
كان هناك من يقول إن الجماعات المسلحة فشلت فى صناعة «الدولة الإسلامية» على أرض كشمير، فأدارت مدافعها إلى سوريا والعراق.
ولا يزال كل شىء كما هو منذ ما يزيد على ٧٠ عامًا.. الحرب مستمرة.

رحلة الـ«18 ساعة» تبدأ بـ«اسم مفخخ».. ممنوع دخول الأجانب.. ولحية الخمينى على كل الوجوه

طلبت من محمد ياسين أن يرافقَنى فى رحلة كشمير، لكن «الفوبيا» من ذكرياته المفجعة هناك دفعته إلى الاعتذار وترشيح «ذاكر». قال: لن تدخل كشمير بسهولة، لأنهم يمنعون دخول الأجانب فى أيام الاشتباكات، لكنك ستصل إلى إقليم «جامو وكشمير» كأى سائح.
كان اسم ذاكر جناح- بالنسبة لى- مفخخًا، فالرجل يحمل قنبلتين فى اسمه، يوحيان لأى نقطة تفتيش بأنه إرهابى، ومن يرافقه إرهابى أيضًا. ذاكر هو اسم ذاكر نايك، الداعية المتطرف، النصَّاب، الممنوع من دخول الهند، وجناح هو اسم قائد انفصال المسلمين فى زمن غاندى، محمد على جناح، أول رئيس لباكستان. اندفعت- بقوة الفضول- فى باص مُكيَّف من دلهى إلى كشمير، أتلمّس مصيرى الذى ظلَّ غامضًا لثلاثة أيام.
١٨ ساعة، ربعها مرّ فى نقاط تفتيش، وكنَّا ندخل «جامو». اصطادنى ذاكر جناح من محطة الباص، وكان يبدو من هيئته متمردًا أو تابعًا لجماعة دينية، ثم بدأت الأسئلة.. كيف سندخل كشمير؟ هل سننجو؟ كيف نواجه المتمردين؟ لا عليك بهم، كيف نواجه الجيش؟.. سيل أسئلة غرضه التهويل لرفع سعر مرافقته: ١٠٠ دولار «٦٨٠٠ روبية».. لن آخذ أقل. تكفى ١٠٠ دولار لتدبير حياة مواطن هندى شهرين، تغمرهما الرحلات، ووجبات الدجاج واللحوم وعشرات السهرات وعِلَب السجائر، وانطلقنا فى سيارة «فيات» إلى الفندق، ومنه إلى حدود كشمير.

بَدَت أطراف المدينة- من بعيد- «مستعمرة إسلامية» كئيبة داخل جنة تجرى من تحتها الأنهار وترفرف فى سمائها أشجار كثيفة، السحب تلامس الأرض والجبال تخترق السماء، وصور الخمينى داخل المحال التجارية، والاستراحات، وليس شرطًا أن يكون مالكها شيعيًا، بينما لحية تشبه لحيته تشوّه كل الوجوه.. فالرجل، كما أوضح ذاكر، كان فكرة سماويّة يريد الانفصاليون تطبيقها، ويدعو: «وفقهم الله». مع الدخول فى العمق، تتلاشى الموسيقى والألوان والروح الطيبة، والتماثيل. يعتبرون أى مجسمات على هيئة بشر منكرًا مخالفًا للدين.
نجا من المجسَّمات الممنوعة نصب تذكارى واحد لبرهان وانى، وانتشرت صوره مرسومة على الجدران مصحوبة بلافتات وملصقات تهديد.. نقض لصحيح الدين- من وجهة نظرهم- لأجل قضية سياسية.

برهان وانى.. «جيفارا كشمير» الذى قتلته نيودلهى

من هو برهان وانى؟
طفل.. مواليد ١٩٩٤.. كان يحب الكريكيت «اللعبة الشعبية الأولى فى الهند» لكن بُعْد بلدته عن العاصمة منعه من احترافها.
ومن تقاليد كشمير أن يغوى الحماس الأطفال فيبايعون جماعة، ويتدرّبون على حَمْل السلاح بعد اليوم الدراسى، وبمجرد الحصول على شهادة الثانوية يسلمون أنفسهم لـ«رسل الخراب» نهائيًا حتى تصبح البيعة التزامًا أبديًا من يخالفه يُقتَل ولو بعد حين.
خطى الطفل نفس الخطوات وفى عمر الـ١٥، اندفع خارج البيت فى لحظة نشوة، احتفالًا بيوم ميلاده بركوب موتوسيكل. ضربه البوليس، وفى وقت لاحق، قتل شقيقه أمام عينيه.
بعد الحادث بأشهر، اختفى «برهان» ثم وقع عقدًا شفهيًا للتجنيد، ظاهره تجديد البيعة القديمة، وباطنه الانتقام. دخل حزب المجاهدين، الذى يديره سيد صلاح الدين، إلى جانب عشرة آلاف متمرّد مسلح اعتاد رؤية عملياتهم وتدريباتهم داخل كشمير، واكتشف لأول مرة قصرًا فخمًا بالإقليم عُدّ مركزًا لتدريب المستجدين، قيل إن أحد رجال الأعمال أهداه لحزب المجاهدين.
تعلم «برهان» فى القصر المهارات الأساسية للجنود فى أى مكان «قفز الحواجز، واستخدام الأسلحة بدءًا من السيف وحتى المدافع، وإعداد خطط العمليات والحروب، وأضيف لها فنون استخدام مواقع التواصل الاجتماعى واختراق الأجهزة المحمولة والتخفى وقراءة الخرائط والمشى على هَدى النجوم والكواكب»، وبنهاية الفترة، أخذ التدريب شكلًا وحشيًا.

هل تريد أن تقاتل أم تصبح بطلًا؟
تردد السؤال على «برهان»، وجاءت الإجابة سريعًا، وبالتزامن مع تنامى قوة ميليشيات المتمرّدين، وكثرة أعدادهم، وفى مطلع ٢٠١٦، تزايدت عمليات القتل والفَرّ، فيما بدا له «عَمَلًا عاديًا»، وبعدها اشتهر على مواقع التواصل الاجتماعى، فأصبح قائد فرقة بحزب المجاهدين بفضل قدرته على حَشْد وتجنيد المتمرّدين على «فيسبوك» و«تويتر»، ونَشْر صور وفيديوهات لدعم مطالب الانفصال وتأسيس دولة جديدة، ودعوة الشباب إلى مواجهة ما سماه الاحتلال الهندى بالتظاهرات السلمية بعيدًا عن الحركات الجهادية.. «استعيدوا أرضكم، حتى لو كرهتم حياة المجاهدين».
اسم سيد صلاح الدين كان معروفًا بالنسبة إلى الأجيال القديمة فى كشمير، بينما جماهيرية برهان وانى فاقت جميع زعماء الجماعات. بنهاية ٢٠١٥، أصبح الشخصية الأكثر نفوذًا فى كشمير، وفقًا لعدة استطلاعات رأى، وفى ٢٠١٦، أعلن الجيش الهندى عن مكافأة «١٠ آلاف روبية» (١٤٥ دولارًا) لمن يرشد عن مكان اختبائه.
بثّ فيديو عن مستعمرات تقيمها الهند للمواطنين الهندوس فى كشمير، مهدّدًا بتفجيرها، وقال إن كشمير لن تكون فلسطين جديدة، فأعرض الآلاف عن التقديم للسكن، وتواصلت تهديداته حتى قُتِل على يد القوات الهندية فى عملية يوم الجمعة ٨ يوليو ٢٠١٦.
تدفق الآلاف إلى سرينجار، عاصمة كشمير، لحضور الجنازة، وعقدت صلاة الغائب فى جميع المساجد، واستمرّت الاحتجاجات آناء الليل وأطراف النهار لأسابيع. بَدَت وكأنها «انتفاضة برهان»، التى قال مراقبون إن جنازات أئمة المتمرّدين لم تشهد مسيرات مشابهة لها أبدًا. كانت التصريحات الرسمية فرحة بمقتل «برهان» مهما كلَّف ذلك من مظاهرات وقتلى، بلغ أعدادهم ٦٠٠، فـ«موته يحمى الهند من جحيم مستمر». بالنسبة إلى المفتش العام لكشمير، سيد مجتبى، كانت تصفيته «أكبر نجاح ضد المسلحين فى السنوات الأخيرة»، ولم ينتبه إلى أن قدرة «برهان» على تجنيد مسلحين من قبره أكبر من قدرته وهو حى على «فيسبوك». كان برهان وانى كلمة سرّ المتمردين فى كشمير سواء كانوا يعملون لحساب باكستان أو لدى جماعات إرهابية، فمن يومها، اشتعلت الأمور وباتت حربًا مزمنة تشتعل باستمرار بين الهند وباكستان، وتزعج الأولى أكثر ممَّا تزعج الثانية، فباكستان تملك وتموّل من الجماعات ما يكفى لإقامة «حرب شوارع» لا تنتهى فى الإقليم، والهند لديها الكثير لتخسره. الأموال لا تنفد، فلا يتوقف الإرهاب.

معارض هارب: تمويل المتمردين من تجارة الهيروين

لنتتبع.. من أين تأتى ثروة الجماعات المسلحة فى كشمير؟
حين تَطرَّفت جماعات مموَّلة من باكستان إلى حد قَتْل مواطنين شيعة أو هندوس فى إسلام أباد، توقف تدفّق الأموال إلى جناحها العسكرى فى كشمير، أو تحوَّل إلى جهاديين آخرين. وقتها، وقَّع متمرّدون شباب عقود احتراف حتى تعود الأموال إلى مساراتها الطبيعية، فمَن كان يعمل لدى «عسكر توبة» انضم إلى حزب المجاهدين، ومن بايع «جيش محمد» عدّل بيعته إلى «مجاهدى الهند».. كلها جماعات مسلحة، لكن اختلاف جهة التمويل يغيّر مساراتها.
تضاعف تمويل حزب المجاهدين ومجاهدى الهند من «حشيش» باكستان، فقدَّما جيلًا جديدًا من أمراء الدم.
يحكى محمد ياسين «رحلة الحشيش»: يلقى طرف من باكستان لفافة من أكثر من نوع مخدرات «نقى» تزن ثلاثة كيلوجرامات داخل الهند، وأغلاها الهيروين، فلا تكشفه الرادارات وأكشاك المراقبة.
فى النقطة المتفق عليها عبر خرائط تطبيق تليجرام، تستقرّ اللفافة، يتناولها المتمرّدون، ويبدأون خَلْط وتَقطيع الحشيش، وبيعه إلى مدن جبال الهيمالايا السياحية، حيث يتضاعف سعْر «الكيف». تباع الكمية المطلوبة بربع مليون دولار.
يقبض الجهادى- فى المتوسط- ١٥٠٠ روبية (٢٢ دولارًا) يوميًا، طبقًا للعرض الذى تلقاه ياسين، لكنه رفض العَرْض «لعدم الاتفاق فى الأهداف».

«كلنا حيدر».. انتصار فى الأفلام وخسارة على أرض المعركة

تفشل باكستان دومًا فى تبرئة ساحتها، أو عرض وجهة نظرها إزاء قضية كشمير بالأفلام، فهى لا تملك سينما بقوة بوليوود، سواء تقنيًا أو فنيًا أو دعائيًا.
تمتنع الأفلام الهندية عن عرض الحقيقة تمامًا، فلا تبرز المناطق غير الخاضعة لسيطرة الهند بداخل كشمير، لأنه يخالف مبدأ «فَرْد العضلات»، ولا تتعرّض لمنطق المتمرّدين، أو مَن يبحثون عن انفصال كشمير، ففى فيلم «فناء»، جسَّد أمير خان دور إرهابى من كشمير يتنكر فى شخصية مرشد سياحى لتفجير المزارات بناء على نصيحة من جده، ويقع فى حب فتاة عمياء يتزوجها، فتضحّى به حين تكتشف أنه إرهابى، وتقتله.
لا تحرص بوليوود فقط على إدانة كشمير، ومَنْ يأتى من كشمير، إنما لا تفارقها صورة البطل الأسطورى الهندى، فحين تفرّ عائلة هندية مسلمة إلى باكستان، تاركة ابنتها الشابة، لتتزوج هندوسيًا، يساعدها على زيارة أهلها بصفاء نية، ليمنعوها من العودة، فتظهر الدعاية البوليوودية للبطل الهندى المغوار، الذى يغامر بالسفر إلى باكستان ليسترد زوجته ويعود إلى بلاده «قصة فيلم (غدار)».
ويصور فيلم «حيدر»- بطولة شاهد كابور- طفلًا جنّده المتمردون، فنفاه أهله خارج كشمير لاستكمال تعليمه، وحين عاد وجد والده مقبوضًا عليه فى مكان غير معلوم، وأقامت أمه علاقة جنسية مع عمه، الذى وشى بأبيه لاصطياد زوجته، وخوض انتخابات نواب كشمير بتمويل من حكومة الهند.
دون خجلٍ، تعترف الهند أنها تجنّد مسلمين للوشاية برفاقهم مقابل قطعة من السلطة كى تقدر على حكم الإقليم المتنازع عليه، وهو ما لم يجرِ مع «ياسين» وحده، إنما كان سر ضياع كشمير قبل ٧٢ عامًا.

نحن الآن فى أغسطس ١٩٤٧.
صدر قانون استقلال الهند وتقسيمها إلى دولتين، الهند وباكستان.
طبقًا لخطة التقسيم، تنضم المناطق ذات الأغلبية المسلمة إلى باكستان، وتدخل المناطق ذات الأغلبية الهندوسية خريطة الهند. كانت بريطانيا باعت كشمير «ذات الأغلبية الإسلامية» قبل مائة سنة إلى مهراجا هندوسى بـ٧.٥ مليون روبية. بعدد المسلمين والجغرافيا، تصبح كشمير جزءًا من جسد باكستان.
أوهم المهراجا، الذى كان أميرًا على كشمير، المسلمين بالتفاهم مع حكومة باكستان، تمهيدًا للانضمام، إلا أنه أمرَ رجاله بنزع سلاح الضباط والجنود المسلمين غَدْرًا، ثم هاجم البيوت ونَزَع سلاح المدنيين، ووقعت مجزرة استشهد خلالها ٢٧٠ ألف مسلم، حتى تركع كشمير للمهراجا، وتندمج مع الهند. فرّ المهراجا إلى مخبأ بـ«جامو» ليرسل كتابًا إلى بريطانيا يقرّ فيه بتبعية كشمير إلى الهند بتاريخ ٢٧ أكتوبر.
كان «يومًا أسود» فى كشمير.
يحيى أهل الإقليم الذكرى تحت اسم «اليوم الأسود».. بعضهم يئس لعدم الانضمام لباكستان، بينما يشهر محمد ياسين، ورفاقه، رايات الحزن على عدم الاستقلال، لأنهم ينتمون للفرقة الثانية، التى لا تعمل لحساب باكستان، لكنها تعمل لحسابها الخاص.
وتوالت الأيام السوداء فى دفتر كشمير.. لم أعِشها بعدما فشلت خطة دخول كشمير، هرب ذاكر جناح حين أوقفتنا مدرعات الجيش، وسلَّمت نفسى طبقًا للنصيحة القديمة، متحججًا بأننى تائه، و«الدليل الهندى» حاول اختطافى.