رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مسلّة ميدان التحرير


لم نجد أثرًا لعبارة «سيتركون العاصمة الجديدة لتحترق بأهلها.... إلخ» فى رواية أحمد خالد توفيق، «يوتوبيا»، أو فى غيرها. وإلى أن تعثر على «ابن الحرام» الذى اختلقها ودسها على المرحوم، نطمئنك بأن العاصمة القديمة، والدائمة، ستعود لدورها التاريخى، الثقافى، السياحى، والأثرى، مع إخلائها من الوزارات والمقار الإدارية الحكومية فى العام المقبل.
من الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، عرفنا أن تكليف الرئيس عبدالفتاح السيسى للحكومة، بتطوير القاهرة، تضمّن إظهار ميدان التحرير فى أبهى صورة، ليكون أحد المزارات الأثرية والسياحية فى المنطقة. وعليه، سيتم تزيين الميدان بمسلة، طولها ١٩ مترًا، يجرى ترميمها، بالإضافة إلى أعمال التنسيق والرصف، والإنارة. وفى اجتماع حضره الدكتور عاصم الجزار، وزير الإسكان، والدكتور مصطفى وزيرى، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، طالب مدبولى المهندس شهاب مظهر، الاستشارى المكلف بأعمال التطوير، بسرعة الانتهاء من مخطط تطوير الميدان، لتبدأ شركات المقاولات التنفيذ على الفور.
المسلة، معروفة فى النصوص المصرية القديمة باسم «نخن»، أى «إصبع الشعاع المضىء»، وسمّاها مؤرخو الاغريق «أوبليسك»، Obelisk، أى الوتر أو الإبرة، وهو الاسم الذى اشتهرت به فى الغرب، «نيدل»، Needle، وترجمه العرب إلى «مسلة»، وهى إبرة كبيرة يحاك بها القماش السميك وأكياس الخيش. وقيل إن القمة الهرمية لكل مسلة، كانت مطلية بمزيج من الذهب والفضة، لتعكس أشعة الشمس على المعبد. وقيل أيضًا إن المهندس المصرى القديم كان يلتزم فى تشييدها بمعادلات هندسية، شديدة الدقة، حتى تقاوم الزلازل، والعوامل الطبيعية المختلفة. الأمر الذى يجعلنا نتوقع صمودها أمام التاريخ غير المطمئن لـ«صينية» ميدان التحرير!.
صينية الميدان أو تلك الجزيرة الدائرية التى تتوسطه، تاريخها غير مطمئن، فعلًا، مع التماثيل، أو النصب التذكارية. ففيها تم وضع قاعدة جرانيتية كبيرة، أمر ببنائها الملك فاروق لكى تحمل تمثالًا لجده الخديو إسماعيل، فى الميدان الذى كان يحمل اسمه: ميدان الإسماعيلية. وبقيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، تغيّر اسم الميدان إلى ميدان التحرير، وظلت هذه القاعدة فى مكانها، تنتظر التمثال، دون أن تسلم من الاستهزاء أو السخرية، كأن يصفها أنيس منصور، فى سبعينيات القرن الماضى، بـ«الخازوق»، إلى أن تم تقطيعها ونقلها إلى مخازن المحافظة، سنة ١٩٨٢، مع بدء أعمال الحفر الخاصة بمشروع مترو الأنفاق.
بعد ثلاثين سنة، تحديدًا أواخر سنة ٢٠١٢ تم الإعلان عن مسابقة لتصميم نصب تذكارى لشهداء ٢٥ يناير ٢٠١١، يتم وضعه فى صينية الميدان. ومن بين مئات التصميمات، وقع الاختيار على التصميمات العشرة الأفضل. لكن لم يتم تنفيذ أى منها، بزعم أنها كلها لم ترقَ إلى مستوى الحدث، كما قال نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية. وظل الموضوع نائمًا حتى قامت ثورة ٣٠ يونيو، وقام الدكتور حازم الببلاوى، رئيس مجلس الوزراء الأسبق، صباح ١٨ نوفمبر ٢٠١٣، بوضع اللبنة الأخيرة للنصب التذكارى لشهداء ثورتى «٢٥ يناير و٣٠ يونيو» بصينية الميدان، يرافقه الدكتور جلال السعيد، محافظ القاهرة، وموسيقى لحن «يا أغلى اسم فى الوجود يا مصر».
وقتها، ذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط أن الحكومة ستعلن عن مناقصة دولية لاختيار تصميم نهائى لتمثال يوضع فوق النصب. لكن لم تمض ١٢ ساعة، إلا وقام «متظاهرون» بتحطيم ذلك النصب التذكارى، خلال إحيائهم الذكرى الثانية لأحداث «محمد محمود». ومع أن محافظة القاهرة، انتهت من ترميمه، فى ٤ ديسمبر ٢٠١٤، إلا أن عمّال المحافظة قاموا، صباح ١٢ يناير التالى، بإزالته. و«قال المهندس محمد القائم على أعمال تطوير الحديقة الوسطى بميدان التحرير لليوم السابع، إن محافظة القاهرة اتخذت قرارًا بتطوير النصب التذكارى وبنائه بحجم أكبر وكتابة أسماء شهداء الثورة الذين ضحوا بأرواحهم من أجل بناء الوطن»!.
علامة التعجب من عندى، وسببها، أن النصب التذكارى لم يظهر بحجم أكبر أو أصغر. وما حدث هو أن محافظة القاهرة وضعت مكانه «سارى علم» بارتفاع كبير يحمل علم مصر، أثناء افتتاح عمليات تطوير الميدان والعمارات المطلة عليه وترميم مجمع التحرير ومسجد عمر مكرم. ولأن المحافظة اكتشفت، لاحقًا، أن «سارى علم» بارتفاع ٤٥ مترًا لا بد أن تكون له قاعدة، تم عمل مسابقة لتصميم القاعدة، ومن بين عدة تصميمات، وقع الاختيار على تصميم قدمته شركة «سينا لايت»، لقاعدة رخامية قطرها ١.٥ متر.
الخلاصة، هى أن الوزراء ووزاراتهم والمسئولين ومقارهم الإدارية سينتقلون إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وسيتركون العاصمة القديمة لتنعم، وأهلها وزوارها، بمبانيها التاريخية ومعالمها الأثرية، الثقافية، والسياحية. ونتوقع أن يصمد «نخن» أو «إصبع الشعاع المضىء» أمام التاريخ غير المطمئن لصينية ميدان التحرير، ليرسم مع «إصبع جمال عبدالناصر»، أو «برج القاهرة»، علامة النصر