رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"الدستور" فى جولة داخل دير المحرق: هنا "أورشليم المصرية"

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

فى دير المحرق، بالقوصية بمحافظة أسيوط، قضت العائلة المقدسة حوالى ٦ أشهر و٥ أيام ضمن رحلتها إلى مصر، لتُسبغ على المكان بركات يأتى الزوار من كل حدب وصوب ليتبركوا بها.

يقع الدير على بعد ١٢ كيلو من مدينة القوصية بأسيوط وتحديدًا فى جبل قسقام، ويعد أحد أهم الأديرة القبطية، ويشهد زيارة الآلاف خلال فترة صوم السيدة العذراء.
«الدستور» زارت الدير لاستعراض تاريخه العريق، وأبرز الطقوس الدينية التى تتم داخله، وشهدت الفعاليات والاحتفالات التى يجريها خلال فترة الصوم.

صلوات تسبحة.. زوار أفارقة.. ورفع «بخور العشية» فى غروب كل يوم
يشهد الدير حالة من الهدوء مع بداية فترة الصوم، وذلك بعد فترة من الاحتفالات الشعبية الخاصة بعيد السيدة العذراء، والبرامج الروحية للزوار خلال شهرى يونيو ويوليو، إذ يتوافد الأهالى عليه لنيل البركة وتقديم النذور والعطايا قبل انشغالهم ببدء العام الزراعى الجديد، لتقتصر الطقوس العامة خلال صوم العذراء على صلوات التسبحة بعد منتصف الليل، والقداسات الإلهية، وصلوات المزامير، ورفع بخور العشية فى غروب اليوم.
قال الراهب القمص مكسيموس المحرقى، أحد رهبان الدير، إن «الدير يزدحم طوال العام بالزوار، إذ إنه المكان المقدس الذى أقامت به العائلة المقدسة ١٨٥ يومًا، وشهد أحداثًا عظيمة انفرد بها دون أى مكان فى العالم»، مشيرًا إلى أن الدير عادة ما يزدحم فى نهاية نصف العام الدراسى الأول، بسبب الجو المعتدل فى صعيد مصر، وكذلك خلال شهرى يونيو ويوليو للاحتفال بعيد العذراء، وكذلك قبل بداية صوم العذراء فى أغسطس.
وأضاف أن «الدير يشهد إقبالًا كبيرًا فى شهر نوفمبر، احتفالًا بالحدث العالمى الفريد المتمثل فى تدشين الكنيسة الأثرية على يد السيد المسيح نفسه، ويغلق أبوابه أغلب أيام الأسبوع مع بداية صوم الميلاد، بنهاية الشهر ذاته، فيما يغلق أبوابه تمامًا خلال أيام الصوم الكبير بداية من النصف الثانى من فبراير».
وذكر أن دير المحرق يقيم احتفالات شعبية ضخمة بالعذراء مريم، فى العديد من المناسبات، ومنها الاحتفالات التى تبدأ من ١ حتى ١٣ يونيو، إذ يأتى الزوار فى هذه الفترة، ممن تعود أصولهم إلى قرية بنى سند بمنفلوط بمحافظة أسيوط، وكذلك الاحتفال بعيد العذراء الذى يبدأ فى الفترة بين ١٤ و٢٨ يونيو من كل عام، وترجع النسبة الغالبة لزائرى الدير فى هذه الفترة لمدينة ملوى بمحافظة المنيا، فضلًا عن احتفالات ما قبل صوم العذراء، وهى الفترة التى تسمى بـ٢٦ يومًا وأغلب زوار هذه الفترة من مدينة ديروط وديرمواس ومدينة ملوى وقراها، وبعدها تتوقف النهضة الروحية والاحتفالات الشعبية، ليبدأ صوم السيدة العذراء الذى يزدحم فى نهايته بزيارات من إثيوبيا وإريتريا.
وأشار الراهب إلى أنه خلال احتفالات الدير بالعذراء يتم تخصيص مساحة مناسبة من الأرض لإقامة مسرح خشبى مؤقت لممارسة برنامج النهضة، ويُسمح للزائرين بالمبيت.
ويبدأ برنامج احتفالات الدير برفع بخور «عشية»، ثم زفة أيقونة العذراء فى ساحة الدير الخارجية، تليها «العظة» لأحد آباء الأساقفة أو الآباء الكهنة، وينتهى اليوم بالصلاة وطلب المراحم الإلهية لمصر وشعبها. ويترأس الأنبا بيجول، أسقف ورئيس دير السيدة العذراء بالمحرق، زفة أيقونة العذراء مريم خلال الاحتفالات.
وقال الراهب القمص مكسيموس المحرقى إن اهتمام الأحباش بزيارة دير السيدة العذراء بالمحرق ونيل البركة يعود إلى طبيعة كل المسيحيين فى الاهتمام بكل الأماكن التى سكنتها أو مرت بها العائلة المقدسة.
وأضاف أن دير المحرق يحظى باهتمام خاص لدى كل الإثيوبيين، فهو المكان الآمن الذى أوت إليه العائلة المقدسة، مشيرًا إلى أن «الدير اهتم بالأحباش وأنشأ لهم كنائس خاصة يصلى فيها بلغة الجيز- لغة الصلوات الدينية الخاصة بهم- كاللغة القبطية الخاصة بالأقباط، ويذكر التاريخ أن الملكة منتواب الحبشية، ومعنى اسمها جميلة أو عجيبة، زارت دير المحرق وحملت معها فى رحلة عودتها للحبشة ترابًا من الكنيسة الأثرية ومزجته بمواد البناء، وبنت كنيسة عرفت باسم قسقام مريم، نسبة لدير المحرق، الذى اشتهر بدير جبل قسقام».
وواصل: «أقرت الكنيسة الحبشية صومًا طوله ٤٠ يومًا ينتهى فى عيد تكريس الكنيسة الأثرية، أى فى ٦ هاتور الموافق منتصف شهر نوفمبر المقبل، وما زال حتى الآن يصام هذا الصوم هناك، وإلى وقت قريب كان الرهبان الأحباش يأتون سيرًا على الأقدام لزيارة الدير ثم الذهاب إلى القدس أو الإقامة بالدير حتى نهاية حياتهم».
وتابع: «فى يوم ٦ هاتور الذى يوافق ١٥ نوفمبر تقريبًا يتوافد على الدير المئات من الأحباش ومعهم آباء رهبان وآباء كهنة لنيل بركة الدير، ولصلاة القداس الإلهى بلغة الجيز، مرنمين الكثير من الترانيم الحبشية، مستخدمين الطبول التراثية، كما يأتى بعض الرهبان والراهبات فى زيارات خاصة لقضاء بعض الأيام كخلوة روحية مملوءة بالبركات».

رسائل لـ«أم النور»: احمينا من كل شر.. وحافظى على أولادنا

قالت أمانى، سيدة أربعينية: «أنا من أسيوط، ومنذ أن كنت طفلة اعتدت على زيارة ديرىّ المحرق ودرنكة خلال صوم العذراء.. أدعو مريم فتستجيب لى، وأعتبر دير المحرق القدس الثانية».
وذكرت «نورين» طالبة بكلية الهندسة: «أنا من سوهاج، وأزور دير المحرق خلال احتفالات الصوم فى كل عام، كما أزور دير درنكة فى أغسطس من كل عام»، مضيفة: «حينما كنت طالبة فى المرحلة الثانوية العامة طلبت من العذراء أن تساندنى خلال الامتحانات، واستجابت لى، ونذرت أن أزور ديرها كل عام». وقال فايق بضابا، ٨٥ عامًا: «أنا من مركز نجع حمادى بقنا، واعتدت على زيارة دير المحرق، ولا أطلب من العذراء سوى أن تصلى لنا أمام الله وتحمينا من كل شر وتحفظ أولادى وأحفادى».
أما نيفين رأفت، سيدة خمسينية، فقالت: «أنا من القاهرة، وأعانى من آلام فى الكلى، وخضعت للعديد من الفحوصات وجربت أدوية كثيرة لعلاج الحصوات، وجئت للدير لأطلب من العذراء أن تساعدنى فى تجاوز محنتى، وأن تشفع لى أمام الرب». وتضيف إلهام غطاس، ٥٢ عامًا، من قنا: «أعانى من قطع فى الرباط الصليبى فى قدمى اليسرى، والتهاب فى أوتار اليدين، وأزور دير المحرق لأطلب الشفاعة من العذراء ولأسألها الشفاء». وقالت ميرنا فوزى، فتاة عشرينية، طالبة بجامعة سيناء، وتزور دير المحرق خلال الاحتفالات: «أزور الدير سنويًا منذ أن كنت طالبة بالصف الأول الإعدادى، وأستمتع بحضور احتفالات العذراء بالدير، وأطلب منها أن تساندنى فى دراستى بكلية الصيدلة، وأن تهون علىّ الغربة، وأن تساعد والدتى لتجاوز مرضها».

مذكور فى الكتاب المقدس.. البابا شنودة دعا لزيارته بدلً من السفر للقدس.. و«السياحة »: رصف الطرق المؤدية إليه
قال القس بولس حليم، المتحدث الرسمى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إن الكتاب المقدس تنبأ بالدير فى سفر إشعياء النبى، فى إشارة إلى إقامة مذبح فى وسط أرض مصر: «فى ذلك اليوم يكون مذبح للرب فى وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها» (إش ١٩: ١٩).
وأضاف «حليم» أن «التقليد يخبرنا بأن هذا المذبح الذى فى وسط أرض مصر موجود بدير السيدة العذراء المحرق، كما تنبأ أيضًا إشعياء بمجىء العائلة المقدسة إلى أرض مصر (هو ذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها) (إش ١٩: ١)، والسحابة المقصود بها هى العذراء مريم»، وتابع: «يحكى التقليد الكنسى أن بدخول العائلة المقدسة أرض مصر سقطت الأوثان فى بعض المدن والقرى».
من جانبه، كشف أحد رهبان الدير- فضل عدم نشر اسمه- عن أن دير السيدة العذراء اشتهر بالدير المحرق لأنه كان متاخمًا لمنطقة تجميع الحشائش والنباتات الضارة وحرقها، ولذلك سميت المنطقة التى يوجد ضمن نطاقها الدير «المحروقة»، ومع مرور الوقت استقر لقب الدير بـ«المحرق».
وقال إن الدير يُعد أحد أهم مزارات السياحة الدينية فى العالم، إذ عُرف بـ«القدس الثانية» لدى الأقباط والأحباش، وذلك لمكوث العائلة المقدسة به مدة طويلة، إلى جانب أنه يُعد المحطة الرئيسية فى رحلة هروبها. وأضاف أن البابا شنودة الثالث عندما سُئل فى إحدى العظات عن زيارة الأماكن المقدسة بالقدس رد: «دير المحرق يُعد بمثابة القدس الثانية ويمكنكم زيارته». ولفت إلى أن الدير كان منزلًا مهجورًا عاشت فيه العائلة المقدسة وتحول فى القرن الأول الميلادى إلى كنيسة، ثم سكن إلى جوار الكنيسة مجموعة من النساك والمتوحدين إلى أن ضُمت الكنيسة إلى الدير فى القرن الرابع الميلادى.
وأشار إلى أن كنيسة السيدة العذراء الأثرية تتفرد ببساطة بنائها، فبرغم ما طرأ عليها من تعديلات وترميمات على مر السنوات، فهى لا تدخل تحت المنهج العلمى للفن المعمارى فى الآثار القبطية.
وذكر أن كنيسة السيدة العذراء هى البيت المهجور الذى عاشت فيه العائلة المقدسة، وأن مذبح الكنيسة الأثرية هو المقصودة به الآية المكتوبة فى الكتاب المقدس «فى ذلك اليوم يكون مذبح للرب فى وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها».
وواصل: «الصلاة داخل الكنيسة الأثرية منذ نشأتها وحتى الآن تتلى باللغة القبطية دون باقى كنائس الدير وذلك كتراث تسلمناه من الآباء القدامى، والكثير من الرهبان عبر التاريخ نسخوا كتب صلواتهم الخاصة داخل صوامعهم باللغة القبطية، وذلك لإجادتهم التامة لها، ومع مرور الوقت نسخ الرهبان كتبهم باللغة العربية». أما عن عمليات الترميم داخل الدير، فقال إن الدولة، فى عام ٢٠٠٠ ومن خلال اللجنة الدائمة للآثار، وافقت على ترميم المنطقة الأثرية داخل الدير، التى تضم الكنائس الأثرية، والحصن الأثرى على نفقة الدير الخاصة، وبالفعل تم الترميم تحت إشراف مكتب الآثار بالقوصية.
وأشار إلى أن الدولة، ممثلة فى وزارة السياحة، وضعت لوحات إرشادية على الطرق المؤدية للدير، فضلًا عن تركيب مظلتين خشبيتين لراحة الزائرين داخل الدير، كما تم رصف بعض الطرق المؤدية للدير، وإن كان هناك عدد من الطرق التى تحتاج إلى الرصف.