رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معاناة

جريدة الدستور



نظرت من النافذة التى أمامى فى محاولة منى أن أنسى بعضًا من معاناتى، والتى أحيانًا لا أشعر بها بل أحس بأنها جزء منى وأنى تعودت عليها، فالوقفة لا تتغير واليد القابضة بعمود الأتوبيس لا تفلته أبدًا، أما البشر المتلاصقون فى بعضهم البعض فما زال العرق وأشياء أخرى تنساب منهم فى شىء من الاستسلام لحرارة الشمس التى لا تقاوم والزحام الذى اعتادوا عليه وألفوه.
ومعظم الواقفين مثلى كنا نقف متجمعين مترقبين كل عربة تأتى، وكلما يطول الانتظار تزداد أعين الناظرين وتزداد معهم التساؤلات ولا تفيد الإجابات. وما أن ظهر الأتوبيس بلونه المميز ورقمه المنفرد إلا وكان معظم من حولى بداخله بما يحملون من أجولة وطسوت دون أن يقف، وكأن هذه العربة التى بالكاد تمشى ستأخذهم إلى الجنة.
ووسط هذا الزحام وعلى الرغم من أنه لا وجود ولو لقدم واحدة على عتبات الباب المزدحم دائمًا إلا أننى استطعت أن أضع قدمى اليسرى وأتشبث بيدى فى ضلفة الباب ثم أدرت جسدى وأسندت ظهرى، وبهذا أصبحت فى وضع آمن ومريح وأهون بكثير ممن بالداخل، فالوضع بداخل الأتوبيس وكأنه فرن آلى يعمل بالشمس وبمساعدة الموتور، وإذا حدث مكروه، لا قدر الله، سيكون مصيرهم محتومًا، أما هنا فأنا أقرب للشارع مما تتصورون، فبمجرد قفزة صغيرة سأكون فى أمان، وما أن أرخيت رأسى للوراء لاستقبال الهواء المنعش الذى سيجلبه الأتوبيس بسرعته عندما ينطلق، إلا وجاءنى صوت يقول: أجرة يا للى ع الباب.
لا شك أنه الكمسرى صاحب الصوت الذى لا يكل ولا يمل أبدًا، وتجده دائمًا يتحدث فى أى شىء ومع أى كان، إلى جانب عباراته التى لا تتغير بل يضيف عليها أحيانًا مثل «تذاكر يا للى ع الباب... ابعت يا للى قدام»، وله دور أيضًا فى زيادة الزحام داخل الأتوبيس، فهو لا يطيق أن يرى مكانًا خاليًا من أقدام بشر، فإذا رآك تقف عند الباب مثلًا وهناك متسع فى الداخل يدعوك للوقوف فيه وكأنه يدعوك ليضايفك، حتى الركن الذى على يمينه بينه وبين المقعد تجد دائمًا فيه امرأة تقف، وليس هو من يدعو فى كل مرة فأحيانًا ترى المرأة بنفسها عندما تصعد تذهب مباشرة إلى هذا الركن الآمن، وأحيانًا يتنازل عن الطرف الأيسر للكرسى المخصص له لامرأة أخرى، وتجنبًا للنظرات يقف نصفه وكأنه يتفحص من صعد ومن لم يرسل له الأجرة لكنه ما يلبث أن يعود لما كان عليه غير مبالٍ، ويُخيّل لى كثيرًا أن المرأة التى تقف أو تجلس بجانبه هى هى لا تتغير، كذلك أيضًا هذا الكمسرى، فلن أرى فيه أبدًا هذا الاختلاف الذى يميز شخصًا عن آخر بل إنهم شخص واحد كهذا الأتوبيس لا يتغيرون أبدًا، فالعبارات واحدة والتعبيرات واحدة كذلك أيضًا الطريقة التى ينادون بها واحدة.. أجرة يا للى ع الباب.
بدون أن أرى وجهه أرسل إليه الأجرة وأتناول تذكرتى كذلك يفعل أيضًا أصدقاء عتبة الباب، فمنهم من يستطيع أن يرسل إليه الأجرة ومنهم من يتمكن من إخراج «الأبونيه» ويظهره له، لكن الرجل الذى كان يقف أمامى مباشرة لم يرسل إليه الأجرة ولم يظهر له أى شىء، بل إنه نظر إليه فى ثبات وقال: مشرحة.. وساد صمت للحظة وكأنه قذف بشىء ما داخل هذا الفم الذى لا يصمت أبدًا، ولأول مرة أرى فيها عامل مشرحة أو أعرف أنه لا يدفع أجرة. وفجأة انقطع الهواء قبل أن يأتى، ولا أعرف لماذا انقبض قلبى؟، وشعرت بأن هذا الرجل الذى يقف أمامى يتقدمنى لمثواى الأخير، وعلى الفور قررت أن أصعد للداخل مرحبًا بأحاديث الكمسرى المسلية ناسيًا الزحام والفرن الآلى الذى بالداخل، وبين الصدور والبطون وبعد إذنك ولا مؤاخذة وقفت أخيرًا أمام مقعد وأحكمت قبضتى كى لا يختل توازنى، لكن الأتوبيس كان قد وقف هو الآخر، كذلك أيضًا الشارع بأكمله.
وفى لمح البصر أصبح الشارع وكأنه معرض لسيارات لا طريق لها، فلا توجد مسافات بين سيارة وأخرى سوى خطوة واحدة بالكاد تمكنك من عبور الشارع إذا كنت على أرضه وتأمل فى أن تعبره بأمان وبكامل أعضائك، وعلى الفور منك تحمد الله فى سرك وتود أن تشكر الإشارة وأنت تعبر من بين السيارات، لكنك وبدون أن تشعر تجد خطواتك سريعة، فالإشارة لم توقف كل هذه السيارات بمختلف أنواعها وركابها خصيصًا لك، ولكن لكى تفتح الطريق أمام شارع آخر وسيارات أخرى، فالسيارات فى تلك الشوارع أهم من المارة. لكنك أيضًا تحمد الله فى سرك أما إذا كنت فى أتوبيس كهذا فلا شك أن اللعنات لن تفارق لسانك لتلك الإشارة وتلك الأصوات اللحوحة التى ولدت معها، فما أن يقف الأتوبيس فى أى إشارة إلا وينتشر الباعة، أو كما يسمون أنفسهم بائعى الإشارات بعباراتهم التى يحفظونها عن ظهر قلب والتى لا تقارن بحجم بضائعهم القليلة الملقاة على أكتافهم وبين أيديهم.
وكلما يطول الانتظار تعلو أصوات وتختلف وتزداد المعاناة. ليست المعاناة فى الزحام أو فى حرارة الشمس التى ما زالت تعلن عن نفسها بقوة وتفرض أفرانها على اللحوم المتلاصقة ببعض عن عمد وعن غير عمد، لكنها فى انتظار الانتظار، فلست أنا وحدى هذه المرة لكنه شارع بأكمله ولا شىء يقدر على الانتظار أو ينسيك معاناته سوى إطلاق الأنظار.
وأول ما نظرت إليه كانت النافذة التى أمامى لكنى لم أر جديدًا، فمشهد الشارع لا يختلف كثيرًا عن وقفتنا هذه، كذلك أيضًا انتظار الأتوبيس للإشارة يشبه انتظارى له لكن ما لفت نظرى وأوقف شيئًا ثالثًا غير قدمى هو ما على النافذة، أو على وجه أدق فى المقعد الذى أمامى مباشرة بجوار النافذة.
كانت تلقى برأسها على الزجاج مستسلمة لحرارة الشمس والعيون التى لم تترك ذراعيها الفالتتين من نصف كم البلوزة التى ترتديها والتى لم تفلح فى ستر هذا الخط الساحر الذى بصدرها، وكان بإمكانى بمجرد أن أشب على أطراف أصابعى أن أراه وأشبع عينى التى قلما ترى مثل تلك الأشياء على طبيعتها، لكنى خشيت من أن أرتطم بالرجل الذى يفصل بينى وبينها الذى لا يمت لها بأى صلة سوى اشتراكهما فى مقعد واحد، وعلى الرغم من أنى ارتطمت به أكثر من مرة لكنها كانت لأسباب، أما هذه المرة فلا أعرف ماذا أقول أو كيف أفعلها بدون سبب، فى البداية ذكّرنى هذا الرجل برجل المشرحة الذى لم يدفع الأجرة لمجرد أنه قال مهنته للكمسرى لكنى أشفقت عليه فرغم الميللى متر الذى يفصل بينه وبينها إلا أنه لا يستطيع أن يلمسها مطلقًا أو حتى ينبس بحرف معها.. ربما يحتاج لسبب أيضًا.
نظرت مرة أخرى إلى النافذة ربما أرى شيئًا آخر ينسينى تلك الرغبة، لكنى رأيت ما زادها، كان ملصقًا إعلانيًا لنوعين من الكريم أحدهما إنجليزى والآخر أمريكى، وكانت هناك صورة لجواد أسود جامح يقف على قدمين فقط ولم تكن الصورة الوحيدة فى الأتوبيس بل إنها انتشرت على معظم النوافذ وفى أركان السقف ومع تلك الصور والإعلانات انتشرت أيضًا هذه العبارة.. ممنوع لصق الإعلانات.. بين قوسين.. مسئولية السائق. ولم تزد الصورة من رغبتى وحسب لكنها شجعتنى أيضًا لخطف تلك النظرة.
فى هذه الأثناء والأتوبيس لا يزال يقف لا أحد يصعد أو ينزل، سوى الباعة، ترى الكمسرى وبعد أن أشبع كل من حوله بأحاديثه يذهب للسائق ربما ليكمل معه موضوعًا ما، وما أكثرها بين السائق والكمسرى «التويـنز» ولكى يتفادى الفرن الآلى الذى ساعد فى بنائه بتلك الكلمات التى يحسبها عملًا ينزل من الباب الخلفى ويمشى بمحاذاة العربة حتى يصل للباب الأمامى. وبمجرد أن ترك كرسيه ونزل بطريقة عفوية بين الواقفين رأت عينى امرأة فى هذا الركن الآمن، وكانت تختلف عن أى امرأة سبقتها فى هذا المكان، كانت بعينين كحليتين والوصف هنا حرفيًا، نعم فمهما دققت النظر فلن ترى سوى عينين كحليتين واسعتين زادت من اهتمامها بهما غالبًا لأنها فقط ما نراه من هذا الزى الذى ترتديه، ورغم الاختلاف الشاسع بينها وبين المرأة التى أمامى إلا أن الرغبة تجاههما كانت واحدة، فهذه التى أمامى برغم أنها ليست بجميلة أو فاتنة إلا أنها ذات شعر منسدل وذراعين بيضاويين، فما بالك بصدرها، أما الأخرى فكونها تختبئ خلف هذا الزى وتزيد من اهتمامها بالشىء الوحيد الظاهر منها وتراه جميلًا فكيف لا تتمنى أن ترى وجهها بالكامل؟!. الغريب فى الأمر أنى لم أشعر بالذنب تجاهها بل تمنيت أن تأتى وتجلس مكان هذا الرجل الذى أمامى.
وكم كنت مخطئًا حين كنت أظن أن أفضل مكان هو عتبة الباب وأنت مسند ظهرك على ضلفته حيث الهواء المنعش والبُعد عن الزحام وها هو الزحام تولد فيه جنتان لا صعوبة فى دخول إحداهما.
- إنها ليست إلا مجرد لحظات قليلة وأعود بكامل قدمى.
هذا ما قلته فى نفسى واستولت علىّ الرغبة تمامًا وأصبح كل تركيزى واهتمامى بالمرأة التى أمامى. كانت تلك الأصوات ما زالت تنادى وكعادتها تبدأ بالصلاة على النبى كى يشد انتباهك إليه وظل يحكى ويشرح أنه لم يستغلك مثل المحال والصيدليات وأنه بهذا السعر سيحطم الأرقام القياسية، ليس هذا فقط بل أنه أخذ يجول فى الأتوبيس يعرض ما معه على الزبائن، وبالفعل بدأ صاحب الصوت يخترق اللحوم المتلاصقة حتى اقترب منى وأصبح صوته فى أذنى.. لا مؤاخذة.. ولا يهمك.. شبيت على قدمى وانحنيت قليلًا.. لا مؤاخذة، قلتها وأنا لا أشعر بشىء سوى ذلك الإحساس الذى يسبق أى فوز محقق وشعرت بأن كل العيون تسلط علىّ وتراقبنى وكأنى أخوض معركة وينتظرون النتيجة بتلهف، وآه من نظرات الشماتة عندما رجعت بلا أى شىء فما إن سمعتنى وأنا أقول لا مؤاخذة إلا ورأيتها نظرت إلى الرجل بامتعاض شديد وعدّلت من جلستها وحرّكت يدها اليمنى والذى لاحظت عليها شيئًا أخضر صغيرًا، ثم أخرجت سلسلة ذهبية كانت قد انسلتت فى بلوزتها وكان معلقًا فى آخرها شىء لا أخطأ فى التعرف عليه حجب الرؤية تمامًا أمام عينى، ورجعت بكامل قدمى بلا أى شىء وتعجبت كثيرًا لهذا الرجل الذى أمامـى، وأحسست بأنى وقفت فى هذا الأتوبيس دهرًا كاملًا ووجدت أن لا حل لهذه المعاناة إلا بالخروج منها. قررت هذه المرة أن أنزل وأترك كل هذا، فكرت وأنا متجه ناحية الباب الأمامى أن أرجع وأنزل من الباب الخلفى، لكنى تراجعت، وبصعوبة بالغة وصلت للباب الأمامى وأمسكت فى العمود الواقف بيمينى. كان الكمسرى يتحدث مع السائق ويضحك معه وكأنهما جالسان على مقهى ولاحت تلك العبارة فى ذهنى وأنا أبتسم.. ممنوع لصق الإعلانات.. مسئولية السائق. لاحظت أن السماء صافية وأشعة الشمس الذهبية تكاد تخفى لونها الأزرق، ثم نظرت لكم الرءوس واللحوم التى أمامى ورنوت للركن الآمن وبنظرة مليئة بالشفقة ألقيتها عليهم ونزلت، عبرت بين السيارات الواقفة حتى الرصيف وفى سرى حمدت الله أن الاشارة ما زالت توقف كل هذه السيارات وتمنيت أن يطول بهم الوقوف حتى لا أندم على نزولى من الأتوبيس برغم كل ما فيه من معاناة.