رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أم عبدالرحمن».. ويا لسخرية القـدر!


لم أتمكن من السيطرة على دموعى وأنا أرى صورة السيدة التى تحتضن طفلها بخوف وجزع، وهى جالسة على سلم معهد الأورام عقب الانفجار الإرهابى الإجرامى، نظرت إلى الصورة كأى أب مستعد لأن يدفع حياته بكل سهولة، إذا كان هذا ثمن نجاة ابن من أبنائه من المرض أو الموت اللعين.

شعر الطفل الصغير المتساقط كان يشير إلى أنه مريض بالسرطان، وأنه هرب من الموت على يد الجبناء أعداء الإنسانية مع أمه، التى روت ملابسها وملامحها البسيطة الطيبة، والدموع المنهمرة من عينيها تفاصيل المأساة قبل أن نعرف عنها أى شىء، الحضن الخائف والوجه الباكى كانا يتحدثان عن مأساة السيدة فايزة حيا الله، أو «أم عبدالرحمن» وكأنها كانت تريد أن تصرخ فى وجوهنا قائلة «هو ناقص خوف وألم ألا يكفيه عذاب السرطان وهو عود أخضر».

عرفت فيما بعد أن ملايين غيرى أبكتهم صورة أم عبدالرحمن، لأنهم تخيلوا أنفسهم مكانها، فكرة إصابة طفلك الصغير بالسرطان، كفيلة بأن تسجنك داخل مأساة من مآسى القدر.. وأن تشعرك بأن الدنيا تدخلك تجربة مريرة، واختبارًا شديد القسوة من القدر الذى لا نملك الاعتراض عليه، ولكن رضاءنا به لا يحول دون الإحساس بالمرارة واللوعة والأسى.

حكاية أم عبدالرحمن المريض، بها تفاصيل مؤلمة كثيرة، فالسيدة البالغة من العمر ٣٢ سنة، هى ابنة لمحافظة سوهاج، ولها طفلان آخران، أكبرهما ٧ سنوات والأوسط ٥ سنوات، وقد تركتهما لتعيش مع الابن الأصغر منذ عشرين يومًا فى الغرفة رقم ٥ بمعهد الأورام لعلاجه من ورم خبيث بالرأس.

ولا بد أن هناك عشرات من القصص المأساوية، التى هرول أصحابها بأبنائهم من معهد الأورام فى تلك الليلة، ولسان حالهم يقول: ما ذنب أبنائنا أيها القتلة.. يا أعداء الإنسانية؟ ألا يكفيهم ما فيهم من آلام ومن عذابات المرض اللعين الذى ينهش أجسادهم الضعيفة؟ أى شيطان سوف تنتصرون له بقتل أبنائنا أو إضاعة أملهم فى الشفاء، فى مستشفى يخفف آلامهم المبرحة مجانًا أو بقروش قليلة.. هل أعلنتم الجهاد ضد الرحمة وضد الإنسانية؟ كيف ستقابلون رب العالمين يوم القيامة وكيف ستبررون له مثل هذه الجرائم الخسيسة، التى لا يرتكبها صاحب دين أو صاحب قلب نابض بأى نوع من الإيمان؟

ومن سخرية القدر أن يكون على النقيض تمامًا فى هذا الحادث المروع، أم عبدالرحمن أخرى، وهى أم القاتل عبدالرحمن خالد محمود (٢٤ سنة)، الذى حمل هذه الكمية الضخمة من أدوات القتل والدمار، امتثالًا لأوامر قاتل أكبر فى جماعته الضالة، والذى من المؤكد أنه ضلله كما ضلل مئات وربما آلاف الأغبياء ممن هم مثل عمره، وأقنعه بأنه سينفذ هذه الجريمة النكراء جهادًا وتقربًا إلى الله، ولا أعرف عن أى إله يتحدثون، ولا دين أبوهم اسمه إيه؟

القاتل ينتمى لحركة حسم الإرهابية، التابعة لتنظيم الإخوان الإرهابى، وكان هاربًا ومطلوبًا قضائيًا على ذمة إحدى القضايا الإرهابية لعام ٢٠١٨ والمعروفة بطلائع حسم، وأخوه الآخر هارب أيضًا، أما الأب فهو إخوانى معروف فى قريته التابعة لمركز أوسيم، وهو ما يوضح طبيعة هذه الأسرة، التى تحارب الدولة بيد وتأخذ منها باليد الأخرى شقة من شقق التضامن الاجتماعى فى مدينة الشروق، أى جحود هذا من الأسرة، وأى سذاجة تلك من أجهزة الدولة التى تمنح شققها لعائلة متطرفة ضليعة فى الإرهاب؟

أم عبدالرحمن توجهت، كما شاهدنا جميعا، إلى حديقة الأزهر لوداع ابنها القاتل، وكم تمنيت أن أعرف كيف تودع مثل هؤلاء الأمهات أبناءهن، وهن يعرفن أنهم ذاهبون لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح باسم الجهاد، ألا تسأل إحداهن نفسها: ماذا لو سقط بين القتلى أطفال فى عمر أبنائى؟ ماذا لو أصيبوا بإعاقات دائمة بسبب جريمته؟ ماذا لو ذاق أبناء بعمر أبنائى مرارة اليتم وهوانهم على الناس، لوفاة آبائهم فى هذه الجريمة، التى سيرتكبها ابن أرضعته الكراهية والحقد على المجتمع؟

هل تمتلك أم عبدالرحمن (القاتل) وغيرها من أمهات القتلة وسافكى الدماء، قلوبًا مثل باقى الأمهات؟ هل يمتلكن ضمائر حية تحاسبهن وتؤرقهن؟ أم أن كراهيتهن لمجتمعاتهن ورغبتهن فى تكفير الآخرين أقوى وأهم من الإحساس بالرحمة أو الشفقة على الآخرين؟

قد يقول قائل إنها ربما لم تكن تعرف تفاصيل الجريمة، وأقول له هذا أكيد، ولكن طالما أنه جاء ليودعها الوداع الأخير، فلا بد أنها أدركت أنه سيفجر نفسه ليقتل ويزهق أرواح أناس آخرين، ربما يكون بينهم قريب أو جار لهم، أو رجل صالح فقيه فى دينه مر فى المكان دون ذنب، أو أبناء يعولون أسرهم ويكدون لتوفير حياة كريمة لهم، إذا كانت تعرف كل هذا ولم تحاول إثناءه عن عزمه أو إعادته إلى رشده فهى شريك أصلى فى الجريمة، هى وكل من شارك فى وداع القاتل وتمنى له التوفيق فى مهمته الشيطانية.

وليس بعيدًا على أم وأب بهذه النوعية أن يباركوا ارتكاب ابن آخر لجريمة شيطانية مماثلة وقتل المزيد والمزيد من البشر، وبعدها يمكن أن يتوجهوا إلى أحد أجهزة الدولة التى يكفرونها ويلعنون أباها ليلًا ونهارًا، للتمتع بإحدى خدماتها أو ضمانتها، كبطاقة تموين أو بطاقة علاج أو حتى علاج على نفقة الدولة، بمساعدة أحد الموظفين المنتمين لجماعتهم المارقة، أو استغلالًا لحالة السذاجة التى نتعامل بها مع هذه الأسر، التى تشبه معامل تفريخ الإرهاب.

إنها قمة السذاجة أو الحماقة أن نترك أسر الإرهابيين تتمتع بما تقدمه الدولة من دعم وإعانات مخصصة للمواطنين الشرفاء فقط، قمة السذاجة أن تحصل أم عبدالرحمن ومن شابهنها على بطاقة للتموين، أو على أى سلع مدعومة أو أى دعم اجتماعى من أى نوع، هؤلاء الإرهابيون لا يرحموننا ويقتلوننا بدم بارد وهم يهللون ويكبرون، وكأننا فى أعينهم كفار قريش، فكيف نوفر لهم مزيدًا من الرعاية حتى يتمكنوا أكثر وأكثر من رقابنا.

«من لا يرحم لا يرحم»، هذا ليس قولى بل قول المصطفى عليه صلوات الله وسلامه.. فكيف نرحمهم وكيف نقابل جحودهم المتزايد يوما بعد يوم بالتسامح والغفران؟ إنهم أشد فتكًا من السرطان نفسه.

عندما أتأمل هؤلاء الذين لا يمتلكون ذرة من الرحمة فى قلوبهم نحونا، أتذكر مقولة الشاعر الكبير الراحل صلاح عبدالصبور: «لا أدرى كيف ترعرع فى وادينا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد».