رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أفراح صغيرة كانت تسعدنا


فى أيام العيد أسرح فى تلك الفرحة التى كنا نحسها ونحن صغار، ليس فقط بالعيد، بل بكل مظاهر الحياة، الصغيرة منها والكبيرة. كان الفرح طاقة بداخلنا تفتش عن أى خيط فتشتبك به وتظهر. طاقة داخلية تتدفق وتتلمس أضعف الأسباب لتقول: أنا هنا. أنا الفرح! يحل العيد، فتظهر المراجيح عند نواصى الشوارع، مطلية جوانبها بألوان مختلفة، تركب المرجيحة بتعريفة، وتدور بها دورة كاملة فى الهواء، بينما بقية العيال الواقفين حول المرجيحة يتطلعون إليك وقد حبسوا أنفاسهم، بفرح، وقلق، وتشجيع.

فى العيد كانت عندنا فرحة الذهاب إلى السينما، للتفرج على فيلم، تبادل لكمات من أول لقطة إلى آخر لقطة بين الشجيع فريد شوقى ومحمود المليجى وحش الشاشة، أو قضاء نصف يوم فى جنينة الحيوانات، أو يا سلام لو ربنا أراد وقمنا برحلة إلى القناطر الخيرية! تلك كانت مباهج العيد فى طفولة جيل كامل. ولم تكن ظروفنا أو حياتنا ميسرة، أو سهلة، لكن طاقة الفرح لم تكن بحاجة إلى إذن أو تصريح، كانت بداخلنا، تثب، وتقفز، وتعلن أن دفق الحياة أقوى من كل شىء.

فى طفولتنا عشنا مع جدى وجدتى، وكان والدى معتقلًا، ووالدتى تعمل معلمة فى مدرسة بمدينة طوخ، لم نكن نراها إلا مرة فى الأسبوع، ولم يكن لدينا سوى الخبز وسقف البيت وهمهمات جدى الغاضبة، المتبرمة، ومع ذلك كان الفرح يثب من داخلنا إلى الخارج ويلون الحياة. لا أدرى بم يفرح الأطفال الآن؟ وقد اختفت المراجيح، ولم تعد السينما مزارًا بعد انتشار الدش والإنترنت ودخول الأفلام إلى كل حجرة، ولم تعد الحدائق مبهجة أو مغرية بالزيارة؟ بم يفرحون؟ لا بد أنهم يجدون أسبابًا أخرى، لكنى بحكم السن، لم أعد أعرف كيف يفكر أو كيف وبم يفرح الأطفال، لكنى واثق من شىء واحد، أن الفرح طاقة داخلية، ربما يكون ملازمًا للطفولة، مقترنًا بالشباب، ثم تخبو تلك الطاقة بالتدريج، فلا يظهر الفرح حتى عندما تغدو كل الظروف ميسرة، وكل شىء متاحًا. فى طفولتنا كانت أكبر فرحة أن نذهب إلى السينما.

كانت دور العرض تعرض ثلاثة أفلام، وثمن التذكرة ثلاثة قروش، أى أن الفيلم بنجومه وموسيقاه وأحداثه ومغامراته وخيوله بقرش واحد فقط! صحيح كانت تلك تذكرة الترسو، لكن ماله الترسو؟! وكانت «سينما الشرق» فى السيدة زينب مقصدنا فى الأعياد، خاصة أنها كانت تتبع نظام العرض المستمر، ندخل فى العتمة إلى الترسو فلا نجد سوى دكك خشبية ممتدة عليها عيال ملتصقة ببعضها مثل السردين، تحملق فى الشاشة التى لا تفصلها عن عيونهم سوى أمتار قليلة. قلما كنا نجد مكانًا شاغرًا لنجلس. نقف حتى يقترب منا شاب شحط ويقول: «عاوزين تقعدوا يا عيال؟». نقول له بحماسة: «آه والنبى». يبسط كفه قائلا: «طيب كل واحد يجيب تعريفة». يعطيه كل منا تعريفة، فيتجه إلى إحدى الدكك ويزاحم الجالس على طرفها ويقعد بالقوة، ثم ينطح بجنبه الصبى الجالس فينتقل تأثير النطحة من واحد إلى آخر حتى تصل إلى آخر جالس فى الطرف الآخر من الدكة فيقع على الأرض!

وبذلك ينفسح لنا مكان للجلوس! نحملق فى بطل الفيلم الأمريكى الشجيع وهو يجرى على حصانه طول الفيلم، يطلق الرصاص الذى لا ينفد ولا ينتهى عنده، والحصان يركض تحت بدن الشجيع الضخم فنشعر بالشفقة على الحصان من ثقل الشجيع ومن أكل العيش. بعد قليل يدخل الترسو صبى آخر فيجلس الشحط بجوارى، يزاحمنى، ينطحنى فأتزحزح قهر أنفى ومن بعدى الآخرون، واحدًا واحدًا، وكنا قبل نهاية الفيلم، نجد أننا جالسون على طرف الدكة من الناحية الأخرى، وما نلبث أن نتلقى آخر نطحة نسقط بعدها على الأرض، ونعود إلى دفع التعريفة من أجل مكان جديد.

أين زوت كل تلك المباهج الصغيرة؟ ولم يكن لدينا شىء؟ ولماذا اختفت كل تلك الأفراح وقد أصبحت الحياة أسهل؟ أم أن الفرح صفة ملازمة للطفولة؟ ملازمة للشباب؟ وطاقة نور تقترن بلحظة معينة؟ طاقة قلب لا تعوقها الظروف القاسية، ولا تبرزها الأحوال الطيبة؟ طاقة مثل دفء الشمس نحسه فى الصباح، ثم يبدأ الدفء فى الزوال لحظة بعد أخرى، وتنحدر شمس الفرح تدخر قوتها ليوم آخر، وبشر آخرون. تشبثوا بالفرح، إن كان ما زال يطرق أبواب القلب، إنه لحظة لا تتكرر. كل سنة وأنتم طيبون، ومصر بخير.