رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الباشا فى الوجدان الشعبى المصرى


رأينا فى المقال السابق كيف دخل لقب «باشا» إلى الحياة المصرية مع دخول مصر تحت الحكم العثمانى، وكان اللقب فى البداية حكرًا على ولاة مصر، ثم حدثت عدة تحولات سياسية واجتماعية تركت أثرها على المدلول المجتمعى للقب باشا.

أصبح لزامًا على المؤرخ اللجوء إلى مصادر غير تقليدية لتتبع المتغيرات على الألقاب، وما تمثله فى الوجدان الشعبى. ويعتبر «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية»،لمؤلفه العلامة أحمد أمين، من أهم هذه المصادر، التى يحتاجها المؤرخ لتفهم الوجه الآخر الذى ربما لا يجده فى المصادر التاريخية التقليدية من وثائق وحوليات.

ويعتبر أحمد أمين من أهم رموز الفكر المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين، إذ جمع أحمد أمين بين الثقافة الأزهرية التقليدية والثقافة الحديثة التى ازدهرت مع نشأة الجامعة المصرية، الجدير بالذكر أنه تولى منصب عميد كلية الآداب، كما جمع أحمد أمين بين دراسة الفلسفة والتاريخ، ولعل أهم مؤلفاته «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» خير شاهدًا على ذلك، وهو أيضًا أب لبعض أهم رموز الفكر المصرى فى نهاية القرن العشرين «جلال أمين» و«حسين أحمد أمين».

أصدر أحمد أمين قاموسه المهم «العادات والتقاليد» فى لحظة مفصلية فى تاريخ مصر، بعد ثورة ١٩٥٢، إذ صدرت الطبعة الأولى منه عام ١٩٥٦.

ويحاول أحمد أمين تقديم كيف نشأ لقب الباشا، ثم تطور اللقب، والأهم التصورات حوله فى الوجدان الشعبى. يوضح أحمد أمين أن لقب «باشا» كان من الألقاب العليا التى كان يمنحها فى البداية السلطان العثمانى، ثم أصبح من حق خديو مصر سلطة منح هذا اللقب، ومع نشأة الملكية المصرية فى عام ١٩٢٢ أصبح من حق الملك الإنعام بهذا اللقب تبعًا لوظيفة يتولاها البعض أو تبعًا لتبرع كبير لعمل خيرى.

ويشير أحمد أمين إلى نقطة مهمة أنه فى بعض الأحيان كان يتم منح اللقب اعتباطًا لمن لا يستحق، ويذكر قصة فى هذا الشأن رآها بنفسه، إذ يروى قصة فلاح ورث بعض فدادين عن أبيه، ثم اقتصد واجتهد حتى اشترى غيرها، فادعى أنه من الذوات، ثم باع بعض أطيانه واشترى بها لقب «بك» وصار يتكلم مقلدًا الأتراك، متظاهرًا بأنه تركى وليس فلاحًا.

ثم باع كثيرًا من أملاكه وحصل على لقب «باشا»، فزادت وجاهته واستطاع بها أن يظلم من حوله من الفلاحين، وأن يسترد منهم ما دفع فى الرتبة.

وربما يكون ما ذكره أحمد أمين هنا صحيحًا، ولكن واضح تمامًا تحامله على الألقاب ومن حملها، رغم أنه نفسه تقلد رتبة «البكوية»، وربما يرجع ذلك إلى الظرف التاريخى الذى صدر فيه كتابه، إذ صدر عام ١٩٥٣ بعد الثورة ومع إلغاء الألقاب.

لذلك يحرص أحمد أمين فى كتابه على ذكر التالى: «كانت هذه الرتب مكملة لسلطة الملوك يستذلون بها الشعب، ويجعلون الناس تشرئب إليهم، وهو نظام يتمشى مع نظام الطبقات، فنظام الرتب والألقاب، والفروق الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، وهكذا. ولذلك لما جاء عهد الإصلاح سنة ١٩٥٢ كان من أول أعماله إلغاء نظام الطبقات بإبطال الرتب والألقاب، وتحديد الملكية الزراعية».

على أى حال لا يخلو قاموس العادات والتقاليد من طرافةٍ فى تناول تعامل الوجدان الشعبى مع لقب الباشا، إذ يذكر أحمد أمين فى باب «البصبصة»- أى مغازلة الرجال للنساء- أن من تعابير المغازلة أن يقول الرجل للمرأة الجميلة «يا باشا، يا باشا»!