رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حجاج السيلفى





فور وصوله إلى الأراضى المقدسة لأداء فريضة الحج لهذا العام، وهى بالمناسبة ليست الحجة الأولى بل ربما كانت الخامسة أو السادسة، حرص صديقى العزيز على أن يرسل لى صوره بملابس الإحرام على «الواتس آب»، وكان يحتسى أول فنجان قهوة عربية، وأنا أثق أنه أرسل نفس الصورة لمجموعة الأصدقاء على الواتس، وهى لن تقل بأى حال من الأحوال عن مائتى صديق وصديقة.
كان من الطبيعى أن أرسل له كلمات تهنئة متمنيًا له حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا، لكن المجاملة لصديقى لم تمنعنى من أن أسأل نفسى: هل كنت سأحذو حذوه لو كنت مكانه؟، هل كنت سأهتم بأن يرانى الناس بملابس الإحرام قبل عشرة أيام من بدء شعائر الحج؟، وهل كنت سأفعل كما اعتاد كثير من الأصدقاء مؤخرًا نقل صورتى وأنا أؤدى كل شعيرة من شعائر الحج؟.. هل كنت سأهتم بهذا الـ«شو» أم سأتفرغ تمامًا لهذه الرحلة المقدسة التى أكمل بها ركنًا أساسيًا من أركان دينى، وبأن أخلص النية لله حتى يتقبل الله حجتى وأعود خاليًا من ذنوبى كيوم ولدتنى أمى؟
الحقيقة أن حجاج السيلفى أصبحوا يمثلون نسبة كبيرة من الحجيج خلال السنوات الأخيرة، وكذلك معتمرى السيلفى الذين لا يكتفون بنشر صورهم داخل الحرم، بل يتعمدون نشر صور أوراق بها دعاء لصديق، أو دعاء لمدير أو رئيس فى العمل!، ومظاهر أخرى كثيرة لا تتناسب مع إخلاص النية لله، والله أعلم.
والحقيقة أن التباهى بالحج ظاهرة ليست جديدة، بل هى أمور اعتدناها منذ عقود، ولكن التباهى بهذه العبادة أخذ منحى أكثر إثارة فى عصر السوشيال ميديا، فبعد نشر صور الطواف والسعى ورفع الأيادى بالدعاء، هناك صور الصعود إلى عرفة والنحر يوم العيد وتقصير الشعر وغيرها، وكل هذه الصور تنشر على الهواء من قلب الحدث، بعد أن حول بعض الحجيج أنفسهم إلى مراسلين «غير معتمدين» من الأراضى المقدسة.
وإذا كان الكثيرون لا يملون من الحديث عن نار الأسعار ومشاكل التضخم، فاللافت أن هذا الحديث لا يؤثر- من قريب أو بعيد- على الزيادة المستمرة فى أعداد الحجاج المصريين، فلنا الفخر أن الحجاج المصريين هم الأكثر عددًا بين الحجاج العرب، وفقًا لإحصائية العام الماضى التى أعلنتها المؤسسة الأهلية لمطوفى حجاج الدول العربية فى المملكة العربية السعودية، فقد وصل عددهم إلى نحو ٨٩.٤٢٦ ألف حاج، من أصل ٣٧٥ ألف حاج عربى أدوا المناسك من ١٩ دولة فى ٢٠١٨.
ومن المتوقع أن يمثل الحجاج المصريون الأكثرية بين الحجاج العرب هذا العام أيضًا رغم الارتفاع الكبير فى الأسعار، حيث يكلف الحج هذه السنة المصرى فى فندق خمس نجوم ١٠٥ آلاف جنيه، وفى فندق ٤ نجوم ٩٠ ألفًا، وفى فنادق ٣ نجوم يتراوح ما بين ٧٠ و٨٠ ألفًا.
بعض الأصدقاء والأقارب أصبحوا مستعدين أن يذهبوا كل عام- أو عدة أعوام- إلى الحج، مهما كان الثمن وحتى لو لم يؤد زكاة المال كاملة، مع أن الزكاة أيضًا ركن أساسى من الأركان الخمسة لديننا الحنيف، ولكن البعض- وليس الكل- يفضل الحج لأنه سيحقق فائدة شخصية مباشرة له، أما أموال الزكاة فستذهب لآخرين.. فهل يتفق هذا مع فهم البعض للدين أو للتدين، حيث أصبح الإقبال أكثر على العبادات؟.
أما المعاملات فهى خاضعة لحسابات أخرى، بل وربما تكون فى ذيل الاهتمامات! أنا لا أسعى لتشكيك أحد فى عبادته أو طقوسه، فالحكم على هذه الأمور وغيرها لله وحده، لكنى ومن باب التأمل فى هذه الأيام المباركة التى أقسم بها الله سبحانه وتعالى، أتساءل لماذا تنفتح القلوب لطقوس الدين، وتصد عن جوهره، حيث «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وحيث إن «من غشنا فليس منا» وحيث إن «خيركم للناس أنفعكم للناس»؟. لماذا لا تتبلور عباداتنا فى تعاملاتنا مع إخوتنا وجيراننا ومع زبائننا وعملائنا أيضًا؟. لماذا نقول إذا أردنا استغلال الآخرين رغم تظاهرنا بالتدين، إن «هذه نقرة وتلك نقرة أخرى»؟!
من قال إن التدين هو طقوس تمارس، دون أن تترك أثرها على السلوكيات والأخلاقيات؟ كيف يكذب متدين حقيقى.. وكيف يغش أو يدلس، وكيف يبيت وقلبه مملوء بالغل والضغينة لآخرين؟
يبهرنى الذين يمسكون بآلة عد رقمية للتسبيح، ثم يتوقفون كل فترة لحساب عدد الحسنات التى جنوها، وكأنهم فى بنك أو فى بورصة الحسنات، مع أننا جميعًا نعرف ما جاء فى الحديث الشريف الذى يقول «سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لن يُدخل أحدًا عملُه الجنة»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله بفضل ورحمة».
اللهم تقبل حج وعبادة كل مخلص، يسعى إلى الفوز برحمتك ورضاك يا رب العالمين، اللهم بارك فيمن يخلصون النية ويتقربون إليك بصالح الأعمال بقلوب صافية، وإيمان حقيقى وقر فى القلب وصدقه العمل.