رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشك واليقين.. فى قوتك تكمن نقطة ضعفك «1»




اليقين اختيار، وثوق، تأكد من موقف دون غيره من المواقف الأخرى، فاليقين انحياز واضح وصريح، ولكى تكون على يقين من أمر يجب أن تتمتع بحرية الاختيار بينه وبين الأمور الأخرى.
ويحق للمرء أن يطلب البرهان على الشىء كى يوقن به أو يطمئن قلبه له دون أن ينقص هذا من يقينه، فهذا نبى الله إبراهيم، عليه السلام، حين سأل ربه أن يريه كيف يُحيى الموتى، قال له ربه: أو لم تؤمن؟، قال: بلى ولكن ليطمئن قلبى، فأراه الله تعالى كيف يُحيى الموتى.
أما الشك فهو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك، وليس الشك اختيار موقف معين مناقض أو معارض لقيم المجتمع، هذا ليس شكًا، هذا يقين، وإن كان يقينًا مضادًا، فالشك هو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما.
ويمكن لمبدأ ما أن يكون أساسًا لليقين وفى الوقت نفسه أساسًا للشك، كما فى القول بأن «الإنسان مقياس كل شىء»، فهو شعار الشك عند الفيلسوف اليونانى «بروتاجوراس»، الذى عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد، لأنه جعل المعرفة الإنسانية تقوم على الحواس فقط، ولأن المعرفة الحسيّة نسبية متغيرة تختلف باختلاف الأفراد، لذلك يقصد «بروتاجوراس» أنه الكائن الفرد، لذلك فالمعارف نسبية ولا وجود لحقيقة ثابتة.
ولذا رفض الديانة الوثنية المنتشرة فى عصره، وقال: «لا أستطيع أن أعلم إن كانت الآلهة موجودة أو غير موجودة، وعلى أى صورة تكون- وذلك بسبب غموض الموضوع- وقصر عُمر الإنسان»، مما أثار حفيظة الشعب اليونانى ضده.
شعار «الإنسان مقياس كل شىء» التشكيكى عند «بروتاجوراس» كان منطلقًا لليقين عند «سقراط»، لأنه جعل المعرفة الإنسانية تقوم على العقل وقدرته على الوصول لليقين، لذلك فالمعارف العقلية مشتركة بين جميع أفراد البشر، ولذلك يكون الإنسان عند سقراط يمثل البشر جميعًا، وبذلك يؤكد سقراط إمكانية الوصول لحقيقة واحدة ثابتة.
فى أول العمر حين تكون صفحة بيضاء، تحتاج إلى يقين وخطوط تسير عليها، قواعد مجربة ومطبقة، غضًا لا تحتمل صدمة التجربة، وليس لديك رفاهية البحث عن الهوية والذات، فقط يكفيك أن تشبع الحاجات الأساسية.. ويصبح اليقين ضرورة، كالطعام والملبس.. حتى يشتد عودنا، وبمرور الوقت لا نكتفى بما هو جاهز ومعلّب ونسعى لاختبار العالم، ووضع كل ما يحيط بنا تحت مجهر الفحص، بعد أن نكتشف أن هناك أشياء كثيرة تعلمناها فى وقت مبكر وأصبحت صورتها فى ذهننا يقينًا لا يقبل الشك، ما هى إلا وهم.
عند نقطة معينة، لحظة ما، تجربة، نجد أنفسنا تغيرنا، تطورنا فى كل الأحوال لا نعود كما كنا.. الزمن أو الوقت هو القوة القادرة على أن تنقلنا من ضفة لضفة أخرى.. الوقت قوة قديرة.. إنه يغير مفضلاتنا.. إنه يعيد تشكيل قيمنا.. إنه يغيّر شخصيتنا، وفقط عندما ننظر إلى الخلف نبدأ فى ملاحظة كم من التغيير يحدث لنا عبر السنين.
هذا التغيير هو ما يجعلنا نتخلى رويدًا رويدًا عن يقيننا إذا كان الإنسان خلال سنوات قليلة يمكنه أن يرصد التغيرات التى حدثت فى ذائقته الفنية، فى تفضيلاته أطعمة معينة، لألوان، ملابس، حتى الأصدقاء، ما الذى يظل فى السلة التى حملناها قبل أن ندخل الغابة، القليل، بل أقل القليل.
يتساءل الكاتب والشاعر الكردى «په يوه ند خوشناو»:
- ما هو الشك؟
- إنه إحساس بوجود شىء ما، وليس النفى لوجوده.
- ولكن هل يأتى الشك بعد اليقين؟
- «نعم، فإذا تيقنت من وجود شىء فتبدأ إحساس الشك به، فلا أحد يشك فى شىء لا يؤمن بوجوده أو لم يصل إلى حد اليقين فى التفكير فيه».
- هل يعتبر الشك فى شىء أو التفكير فى تنوع وجوده أو دلالات وجوده شيئًا خاطئًا؟
- لا، فإن عقل الإنسان يتطور عندما يفكر، والإحساس بالشك هو أولى خطوات التفكير.
- وهل نقدك أو تعليقك على بعض التصرفات دليل على عدم الإيمان بتلك التصرفات أو أنك تنفى هذا التصرف أو ذاك التصرف؟، وهل النقد دليل على الرفض؟
- لا، إن النقد يعتبر ثانى خطوات التفكير للوصول إلى الرقى والكمال، وكلما زاد شكك ونقدك زاد إيمانك بوجود ذلك الشىء المشكوك فيه، وساعة من التفكير تعادل ألف سنة من عدم التفكير.
هامش
- قالت لى: ماما، إذا كان الماء يمثل ٧٩٪ من الأرض، والأرض تمثل ٢١٪ فقط، فلماذا لم نسمّه كوكب الماء وليس كوكب الأرض؟