رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحيل الباجى ومستقبل الرئاسة التونسية


الرئيس التونسى الباجى قايد السبسى وافته المنية فى المستشفى العسكرى بالعاصمة ٢٥ يوليو ٢٠١٩، بعد تعرضه لوعكة صحية، هى الثانية فى أقل من شهر.. سياسى عربى من العيار الثقيل، تدرج حافل بالمسئوليات، عبر حقب سياسية، وعصور مختلفة. مدير إدارة الأمن الوطنى ١٩٦٣، وزير داخلية ١٩٦٥، وزير دفاع ١٩٦٩.. اعتبره النظام منحازًا للمعارضة منذ ١٩٧١ لمطالبته بالإصلاح السياسى، ثم أعاده للحكومة نهاية ١٩٨٠، وكلفه بوزارة الخارجية ١٩٨١.. رئيس مجلس النواب ١٩٩٠، رئيس الحكومة ٢٠١١، رئيس الجمهورية منذ ديسمبر ٢٠١٤.. ولايته كانت ستنتهى نوفمبر المقبل، تعرض لضغوط قوية للترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، لكنه أدرك أن رحلته قد انتهت، فلم يستجب، وغادر تاركًا خلفه رصيدًا بالغ الثراء.

السبسى شارك فى حماية تونس من مصير شركائها فى الخريف العربى، الذين ما زالوا يعانون ويلات الحرب الأهلية، ويخيم عليهم شبح التقسيم.. الإخوان حاولوا اقتناص السلطة، عندما كلف المنصف المرزوقى، رئيس الجمهورية السابق، حمادى الجبالى، أمين عام حزب النهضة، بتشكيل الحكومة ديسمبر ٢٠١١، ما أحدث قلقًا لدى الرأى العام، انعكس على زيادة نسبة المشاركة فى انتخابات ٢٠١٤، واختيار السبسى، كأول رئيس للجمهورية يختاره الشعب بشكل مباشر، فضلًا عن فوز حزبه بالأغلبية فى البرلمان.

المناورات بشأن خلافة السبسى لم تستغرق طويلًا، قادها الإخوان وتمحورت حول ثلاث قضايا؛ الأولى: غياب المحكمة الدستورية المسئولة عن إعلان خلو منصب الرئيس.. الثانية: تحديد طبيعة غياب الرئيس، المؤقت يتم تكليف رئيس الوزراء «يوسف الشاهد»، المدعوم من الإخوان، بأعمال الرئيس.. أما الدائم، فيتولى رئيس مجلس النواب «محمد الناصر» الرئاسة مؤقتًا.. الثالثة: التشكيك فى صلاحية «الناصر» الصحية لتولى مهام الرئاسة، بهدف تكليف نائبه الإخوانى عبدالفتاح مورو نائب رئيس حركة «النهضة» كما يقضى الدستور.. وفاة الرئيس حسمت اللغط بشأن طبيعة غيابه، والهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين حلت محل الدستورية، وتولى «الناصر» المنصب بصورة آلية.. تونس دولة متحضرة، تفاعلات مؤسساتها تتسم بالنضج، ما ساعدها على تجاوز الأزمة، وتجنب الفراغ الدستورى والفوضى.

فترة ولاية الرئيس المؤقت لا تقل وفقًا للدستور عن ٤٥ يومًا، ولا تزيد على ٩٠، وخلال هذه المدة لا يمكن تقديم لائحة لوم ضد الحكومة، ويحظر على الرئيس المبادرة باقتراح تعديل الدستور، كما يمتنع عليه اللجوء إلى الاستفتاء، أو حل مجلس نواب الشعب، إلى أن يتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لفترة رئاسية كاملة.. الأمر الرئاسى الذى وقعه السبسى حدد ١٧ نوفمبر موعدًا للانتخابات الرئاسية، لكن هذا التاريخ يتجاوز فترة الـ٩٠ يومًا الخاصة بالرئاسة المؤقتة، ما دفع الهيئة التونسية العليا المستقلة للانتخابات إلى تحديد ١٥ سبتمبر ٢٠١٩ موعدًا جديدًا لإجرائها.

النظام السياسى التونسى يعطى صلاحيات أكبر لرئيس الحكومة على حساب رئيس الجمهورية، على الرغم من ذلك تظل رئاسة الجمهورية تمثل الوجاهة السياسية التى تتنافس عليها مختلف الأحزاب والجماعات السياسية.. غياب رئيس بوزن السبسى يترك فراغًا لا يتيسر ملؤه، ما يفسر صعوبة التنبؤ بالمرشح البديل، خاصة أن المطروحين كثر.

الأول: يوسف الشاهد رئيس الحكومة، يجمع بين الشباب «٤٣ سنة»، والخبرة السياسية، ما سمح له بالترقى خلال فترة وجيزة من وزير دولة إلى رئيس للحكومة، وساعده على مواجهة كل المناورات والضغوط التى استهدفت الإطاحة به.. عينه الرئيس السبسى، عندما كان ضمن حركة «نداء تونس»، لكنه انقلب عليه بعد حصوله على مساندة الإخوان.. ومما يؤخذ عليه ما كشفه موقع «ويكيليكس» بشأن عمله خبيرًا زراعيًا لسفارة الولايات المتحدة الأمريكية بتونس.. لكنه بصفة عامة يحظى بأكبر توافق داخلى وخارجى.

الثانى: الرئيس التونسى السابق المنصف المرزوقى، يعتمد على شعبيته كأول رئيس للدولة، عقب رحيل «بن على»، خاصة داخل أوساط حركة النهضة، وهو حقوقى بارز، يحظى بتأييد النشطاء السياسيين، كما يحظى بمساندة الإخوان.

الثالث: رجل الأعمال سفيان بن ناصر وهو ناشط سياسى استقال مؤخرًا من حركة نداء تونس، وأعلن عزمه الترشح للرئاسة دون أى حشد للدعم السياسى، وذلك رغم أنه ربما كان المرشح الوحيد الذى طرح من خلال الإعلام، أجندة متكاملة لعلاج الأزمات، ورؤية إصلاحية لاقتصاد الدولة.

الرابع: رجل الأعمال رضا شرف الدين، النائب فى البرلمان رئيس النجم الرياضى الساحلى، الذى يترأس لجنة التحضير لمؤتمر «نداء تونس» القادم، ومن المتوقع أن يلعب دورًا سياسيًا مهمًا داخل الحركة، لكنه يواجه نفس القصور المتعلق بحشد الدعم السياسى المطلوب للترشح للمنصب.

الخامس: نبيل القروى، رئيس حزب «قلب تونس»، إعلامى بارز، رئيس قناة «نسمة»، يقدم برنامج «خليل تونس» الحوارى ذائع الصيت الذى يحظى باهتمام الطبقات الاجتماعية البسيطة، على خلاف حاد مع رئيس الحكومة، يخضع للتحقيق فى اتهامات بغسل الأموال والتهرب الضريبى، وقد يخضع للضوابط التى تقضى باستبعاد من يثبت توظيفه لأى قناة تليفزيونية فى الدعاية السياسية.

السادس: ليلى الهمامى، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن، إحدى أبرز الناشطات الفاعلات فى الساحة السياسية، تستند إلى قاعدة تأييد واسعة بين المرأة التونسية، اعتمادًا على دورها فى المطالبة بحقوق المرأة، وعدم التراجع عنها فى ظل نظام قد يلعب فيه الإخوان دورًا أكبر.

السابع: عبدالكريم الزبيدى، وزير الدفاع الحالى، لعب دورًا رئيسيًا فى خلع «بن على».

الثامن: كمال مرجان وزير الوظيفة العمومية.

إخوان تونس مقبلون على الانتخابات ولديهم عناصر ضعف، متمثلة فى حالة الانقسام الداخلى بين توجهات حمائم القيادة الرسمية «الغنوشى، مورو»، وتشدد قواعد الحركة، الذى وصل إلى حد التنسيق مع التنظيمات الإرهابية، ويكفى للدلالة على ذلك تزامن إصابة السبسى بالوعكة الصحية الأولى ٢٧ يونيو مع تفجيرين انتحاريين لـ«داعش» بالعاصمة، أعقبتهما عملية تفجير إرهابية ثالثة يوم ٢ يوليو.. وفى المقابل لديهم عنصرا قوة يتمثلان فى تولى الإخوانى عبدالفتاح مورو رئاسة البرلمان خلال الفترة الانتقالية، فضلًا عن أن المرشحين الأول والثانى محسوبان على الجماعة، ويعتبر فوز أحدهما انتصارًا لها.

رحل السبسى فى وقت بالغ الحساسية، فقد كان مأمولًا من الرجل الذى حمى البلاد فى أحلك الظروف، أن يستكمل مهمته، بالعبور بالدولة الى بر الأمان، من خلال انتخابات رئاسية وتشريعية لا يشارك فيها هو شخصيًا.. غيابه يضع الدولة أمام اختبار مهم، هل ستنجح المؤسسات السياسية والسيادية والسياسيون والهيئة الشعبية الناخبة فى التعبئة والتصدى لطموحات الإخوان فى اختطاف السلطة.. أم ستسقط الديمقراطية التونسية ومدنية الدولة، تحت دبيب أقدام صعود الإرهابية؟!.