رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكبر همى

جريدة الدستور

لفت نظرى أن الأفرع لم تعد فقط تمتد لأعلى ولكنها بلغت حجمًا من الاستطالة حتى سدت علىّ مداخل الفراندا فى بيتى فى شارع الجبلاية بالزمالك.
الأمر لم يعد متحملًا تلك الشجرة المزروعة فوق المنحدر المواجه لصفحة النيل أمام شقتى بالدور الثانى، تجاوزت حدود الطوار وساقتها جذورها للانحناء بشكل يشبه استعراض راقصات الملاهى، لتتجاوز الطريق الذى يفصل بيننا وتقتحم بيدها منزلى مكونة سدًا عملاقًا بينى وبين التمتع بمنظر النيل البديع وتنسمى لأى نسمة هواء قد تأتى من ناحيته.
كنت كلما أحاول التريض صباحًا، كعادتى منذ سنوات، تستوقفنى تلك الشجرة وأتأملها بشدة، الأمر يبدو وكأن أحدهم قد زرعها فى موضعها تحديدًا لكى تنبت بهذا الشكل، مشكلة بأفرعها قوسًا كرأس الشانزليزيه الفرنسى، بدايته من المنحدر ومنتهيًا بغرفتى على الجانب الآخر، قاصدًا من ذلك تكدير حياتى وقلب أحوالى.
لا أذكر تاريخ زرعها ربما عشر سنوات أو تزيد، نشأت فى هذا البيت منذ أن كان البواب نوبيًا واسمه «إدريس».. تبدل الحال وقامت ثورة ضباط واشتراكية وانفتاح وثورات جديدة، ورحل الضباط ثم عادوا، تغيرت الأنظمة بحكم الزمن وبحكم رغبتنا، وتغيرت الأحوال والبواب صار موظفًا للأمن، وتجاوزتُ الستين، وسافر أولادى للإقامة فى فرنسا، وسئمت المعاش ووحدتى، ولم أشك لحظة فى نوايا تلك الشجرة نحوى إلى هذا الحد.. لا بد أنها تنتوى بى شرًا وعلىّ أن أتغدى بها قبل أن تتعشى بى.
قادتنى قدماى إلى نقطة شرطة الجزيرة قاصدًا وضع حد لتلك الشجرة الملعونة، وقابلت الضابط النوبتجى، وكان شابًا ذا سمت طيب، تعشمت أن يساعدنى فى مشكلتى
قلت له فى تضرع:
- الحقنى أرجوك أنا تعبت منها ومش قادر أتحملها.. دى هتخنقنى، تريد قتلى.
رد مندهشًا: مين زوجتك؟
- زوجتى ماتت من زمان لكن الشجرة لا تموت.
- أى شجرة.
- الشجرة اللى قدام البيت تمد يدها وأفرعها قاصدة اقتحام حياتى ولا أهنأ بوحدتى، تدخل من الفراندا إلى غرفتى هى وطيورها وحشراتها وهاموشها وندى صباحها.
- تقصد ندى الصباحى؟
- لا يا بك ندى صباح ورق الشجرة.
نظر إلىّ مرتابًا وبدأ يشك فى قواى العقلية:
- إذن أنت ترغب فى أن أحرر لك محضرًا أثبت لك فيه تضررك من الشجرة؟
جاوبته محاولًا استحضار ملمح الجدية فوق وجهى:
- المحضر فكرة هائلة.. ولكن هل تعتقد أنه ذو فائدة حقيقية؟
- هل تملك حلًا آخر؟
- أنت ظابط والظباط لهم كلمة.. مَن يملك أن يقتاد مواطنًا إلى السجن لن يعجزه قلع شجرة.
قلتها بارتباك واضح وقد بدا علىّ ضعف الحيلة، وتمنيت لو أننى خاطبت أحد معارفى لتوصيته قبل أن أحضر إليه، لعله يهتم أكثر، لعل مهندسًا عجوزًا مثلى لا تكفى طيبته الظاهرة وأصله العريق فى أن يقوم على خدمتى بدون سابق معرفة.
زفر هواء كتمه فى صدره أثناء جملتى، ورد كمَن اعتاد سماع تلك الجملة:
- أنت تعلم أننا لا نقتاد سوى المجرمين، ولكن ألا تعلم أن اقتلاع الشجر جريمة فى ذاته لا ترغب فى أن أشارك بها، هناك إجراءات يجب تتبعها.
سألته فى لهفة وكلى أمل فى جملته الأخيرة:
- وكم من الوقت تستغرقها هذه الإجراءات؟
قال، وهو يناولنى ورقة لكتابة الشكوى
- أربع إلى خمس سنوات.. هذا أمر عسير كما تعلم.
كتبت الشكوى فى أسف وكلى خيبة أمل، وغمرنى إحساس الفشل أكابد الواقع وهو يعاندنى، يستوى فى ذلك يومه وغده، وغشيتنى الكآبة وتوهمت أن حياتى كانت سعيدة قبلها، وأن وجودها هو سبب شقائى، ورحت أتأملها وأخالها تبتسم فى تشفى من جذعها إلى جذرها فالتقطت من غيظى عصا ملقاة على الطوار، وصرت أضرب فى جذرها بعنف صائحًا بأعلى صوتى: مش هسيبك تنتصرى عليا، أيامك صارت معدودة أيتها البائسة، ولمحته يقف بجوارى متعجبًا.. أمين شرطة من قوة القسم فاغر الفم مشدوهًا بفعلى، وباغتنى وقد شعر بحرجى منه فحاول زيادته بالقول:
- دى حالة صعبة.
- أرجوك ساعدنى.. انظر هذا منزلى إنها تسد عليا منافذ الحياة.
- وهل لديك حياة؟ أعنى هل لديك ما يشغلك سوى تلك الشجرة؟
- ساعدنى فى الخلاص منها وسأجد ما يشغلنى فى الحياة.
- أنت فى نعمة كبيرة ربما يكون فى هذه الشجرة خير كثير.. ربما الشر يكمن فى التغيير.
- لا أرغب فى أى خير من ورائها ويا مرحبًا بما خفى من شرور.
لم يكلفنى الأمر سوى أن أحضرت له على سبيل الهدية بدلة إنجليزى كان قد شاهدنى مرتديًا إياها إحدى المرات، وفى خلال أقل من أسبوع كان قد استغل نفوذه وقام عمال الحى بإحضار عدتهم وعتادهم ووقفوا يزيلون أكبر همى، غير عابئين باعتراض بعض السكان على قطع الحياة فى هذه العروق الخشبية، والحق أننى شعرت ببعض التعاطف مع حال الشجرة وعشش الطيور التى تسكنها، لكن رغبتى فى أن أعاود التطلع إلى صفحة النيل والتمتع بهذا المنظر صباحًا وعند الغروب غلب شعورى بالشفقة تجاهها، ومن صميم ذاتى تراءت لى جنة التغيير التى تنتظرنى بعد اجتثاث الشجرة الخبيثة، فنقدت العاملين مبلغًا محترمًا كان بمثابة الدفعة المعنوية التى خلصتنى من هذه الشجرة عمر العشر سنوات فى عشر دقائق وسط ابتسامة تعلو ثغرى وبكاء أحاط بعيون بعض الجيران.
ولم يدم استمتاعى بالمنظر طويلًا ففى خلال أقل من شهر رست إحدى السفن العائمة العملاقة فى هذا الموضع من النيل واستولت عليه، وبها عدد كبير من المطاعم والمحال التجارية، وكان هذا المكان مميزًا بعد أن تمت إزالة الشجرة العملاقة التى كانت تسد عليهم منفذ الرسو والطريق، وهكذا هجرتُ المنزل بالكامل بعد أن تحولت الحياة فى الشارع إلى جحيم لا يطاق بسبب التكدس المرورى الذى يحدثة رواد السفينة، والصخب والضجيج الخارج من محلاتها.
بعد أن حملت آخر حقيبة لىّ على السيارة الناقلة وأخبرت سائقها بكل هم وكدر عن وجهتى وقفت أسترجع تلك الأيام الخاوية، وانبسطت أمام ناظرى سلسلة الهفوات والأخطاء التى كابدتها فى حياتى، وتذكرت قولًا لأمى «إن الغد يعلمه الله ويصنعه الإنسان»، ووجدتنى لأول مرة قادرًا على فهم ما عنيته بتلك الجملة، وابتسمت فى مرارة عندما تذكرت الشجرة العملاقة التى كانت ترقد فى سلام فوق الطوار والتى كانت فى يوم جميل أكبر همى.