رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بعد حداد تونس


وفاة الرئيس التونسى الباجى قايد السبسى قبل أشهر من نهاية ولايته، آخر العام الحالى، وضعت الأشقاء فى تونس أمام امتحان صعب، لا «ليبرهنوا على أنهم يستحقون الديمقراطية»، كما ذكرت جريدة «لابراس» الحكومية الناطقة بالفرنسية، ولكن ليثبتوا أنهم استوعبوا ما لقنته لهم السنوات التسع السابقة من دروس وعبر.
لم يتمكن البرلمان من انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، بسبب الحسابات السياسية للأحزاب. وعليه، تولت «الهيئة الوقتية للنظر فى دستورية القوانين» مهام المحكمة الدستورية، وأقرت خلو منصب رئيس الدولة، وكلفت محمد الناصر، رئيس البرلمان، بتولى الرئاسة مؤقتًا، إلى حين تنظيم الانتخابات. وبالفعل، أدى الناصر (٨٥ سنة)، اليمين الدستورية. ثم قررت الهيئة العليا للانتخابات تقديم موعد انتخابات الرئاسة إلى ١٥ سبتمبر المقبل، بعد أن كان مقررًا إجراؤها فى ١٧ نوفمبر، بينما ظل يوم ٦ أكتوبر هو موعد إجراء الانتخابات البرلمانية.
كل رؤساء الأحزاب والنقابات التونسية أعلنوا تمسكهم بالمسار الانتخابى حفاظًا على الدولة ومؤسساتها، غير أن ذلك لم يقلل من ارتباك المشهد العام، ولم يفك اختلاط الأوراق المختلطة. ولم يحل دون ذلك التصعيد غير المسبوق فى العنف اللفظى واتهام بعض من أعلنوا عن نيتهم خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بأنهم من «رموز الفساد وغسل الأموال»، وكذا التشهير بعدد من العائلات بزعم أنها «تحتكر الثروات والنفوذ». وهناك من أكدوا أن «الشكل المافيوى للحكم أصبح واضحًا»، وحذروا من محاولات لجر البلاد إلى صراعات لا نهاية لها.
التأثير الأكبر، الآن، للتكتلات أو «اللوبيات» المالية والإعلامية، مع تراجع تأثير من شاركوا فى الحكم طوال السنوات التسع الماضية، ومع تزايد اهتمام التونسيين بالملفات الاقتصادية والاجتماعية، على حساب شعارات الثورة وصراعات العلمانيين والإسلاميين حول المسائل العقائدية، التى كانت أبرز الملفات المطروحة طوال أكثر من ستين سنة. وهناك طبعًا ملف محاربة الفساد، إذ كانت حكومة «الشاهد» قد قامت، منذ سنتين، بملاحقة عدد من رجال الأعمال والسياسيين، جرى اتهامهم بالفساد والتآمر على آمن الدولة. غير أن هناك من اتهموها بـ«الكيل بمكيالين» والتعامل مع الفاسدين أو المتآمرين بطريقة انتقائية.
المكتب السياسى الموسّع لحزب «تحيا تونس»، الذى يتزعمه يوسف الشاهد، رئيس الحكومة، عقد اجتماعًا، انتهى بإصدار بيان اتهم فيه مجددًا حافظ قايد السبسى، نجل الرئيس الراحل، وعددًا من المقرّبين منه بـ«الفساد، وبالتحضير لإبرام صفقة مالية سياسية تؤثر سلبًا على الانتخابات، وعلى مصداقية المسار الديمقراطى التعددى فى البلاد». وما لم يذكره البيان صراحة، أو ذكره تلميحًا، قاله بوضوح الصحبى بن فرج، عضو البرلمان، القيادى فى الحزب، الذى قام بتحميل نجل الرئيس الراحل مسئولية انشقاق أعضاء بالحزب الحاكم السابق، حزب «نداء تونس»، واتهمه بالتحالف مع متهمين بـ«الفساد المالى»، وخص بالذكر نبيل القروى، الذى سنعود إليه بعد قليل.
نتصور أن المنافسة الحقيقية فى انتخابات الرئاسة ستكون بين أربعة: يوسف الشاهد، راشد الغنوشى، المنصف المرزوقى، ونبيل القروى. والأول، الشاهد، هو رئيس الحكومة منذ ثلاث سنوات، أغسطس ٢٠١٦، وكان الأقرب إلى «السبسى» قبل أن يتمرَّد عليه، منذ سنة تقريبًا، وينشق عن حزب «نداء تونس» ليؤسس حزب «تحيا تونس»، بسبب خلافاته مع نجل الرئيس الراحل، وتحالفه أو لعبه المريب مع «الإخوان» وغيرهم. أما الغنّوشى، رئيس حزب «حركة النهضة» الإخوانية، والمنصف المرزوقى، رئيس حزب «الحراك» الإخوانى بشرطة، فالاثنان وجهان لـ«غراب» واحد يحظى بدعم قوى من تركيا، قطر، باريس، برلين، لندن، وربما واشنطن.
الرقم الصعب فى المعادلة قد يكون نبيل القروى، رجل الأعمال وصاحب قناة «نسمة» الخاصة، الذى تربطه علاقات قوية برجال أعمال أوروبيين وعرب وتونسيين طبعًا، أبرزهم سيلفيو برلسكونى، رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق، وشفيق جراية، رجل الأعمال التونسى المسجون الآن على ذمة قضايا فساد، ونجيب ساويرس، رجل الأعمال المصرى الغنى عن التعريف.
منذ أسابيع أعلن «القروى» عن تأسيس حزب اختار له اسم «قلب تونس»، وقال إنه سيخوض الانتخابات البرلمانية منافسًا فى كل الدوائر الانتخابية، كما أعرب عن نيته الترشح فى الانتخابات الرئاسية. وكان غريبًا وعجيبًا أن يتصدر «القروى» وحزبه نتائج استطلاعات الرأى. مع أن المذكور وشقيقه غازى مثلا، مجددًا، منذ أيام، أمام قاضى التحقيق، ووجه إليهما الادعاء التونسى اتهامات عديدة بينها غسل الأموال والتهرب من الضرائب و... و.... إلخ.
بالدموع، ودّع الأشقاء رئيسهم الراحل، وأعلنت الحكومة التونسية الحداد لمدة أسبوع. ولا نتمنى أن يؤدى ارتباك المشهد العام واختلاط الأوراق والتصعيد غير المسبوق فى العنف اللفظى، والاتهامات المتبادلة، إلى زيادة المشهد السياسى فى البلاد ضعفًا وهشاشة. ما قد يجعل فترة الحداد تنتهى شكلًا، بعد أيام، وتستمر موضوعًا إلى ما شاء الله!.