رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف اختار «جو» والدى لدور الشيخ يوسف فى «الأرض»؟



كانت للمخرج يوسف شاهين عين مدهشة فى اختياره الممثلين، عين تشتق وجه الممثل من ملامح خامدة، كما يشتق الأديب الكلمات من الأفعال ليبلغ ذروة التعبير الأدبى. وقد أدهشتنى هذه المقدرة خاصة عندما رأى يوسف شاهين أن والدى عبدالرحمن الخميسى هو الوحيد الصالح للقيام بدور الشيخ يوسف فى فيلم الأرض.
وكانت قدرة شاهين تلك ساطعة على امتداد رحلته، حتى إنك فى كل أفلامه لن تجد ممثلا واحدًا فى غير موضعه، بحيث يبدو كأن أولئك الممثلين قد خلقوا لتلك الأدوار، ولا يسعهم أن يعيشوا خارجها.
هكذا قدم شاهين عددًا من النجوم لم يستطع بعضهم بالفعل أن يحيا خارج العين التى رأته، كان منهم هانى سلامة، والمطرب محمد منير فى «حدوته مصرية»، وماجدة الرومى فى «عودة الابن الضال»، ومحسن محيى الدين فى «إسكندرية ليه»، والشهيرة «روبى»، كما قدم نجوى إبراهيم فى دور وصيفة فى فيلمه الأجمل «الأرض» عام ١٩٧٠. وأعتقد أنه كان يرى فى وجوه أولئك جميعا شيئًا خاصًا لا يراه أحد سواه، شعاعًا قادرًا على تجسيد رؤيته الفنية. وكان بوسع كل من سنحت له فرصة الجلوس إلى ذلك الفنان الكبير أن يلمح فيه ما يمتاز به المبدع الموهوب: نزق الطفولة والقلق والتوثب إلى استكشاف أرواح الآخرين.
وقد اختار يوسف شاهين والدى لفيلم «الأرض»، وأصر على ذلك طويلًا، رغم أن تجربة والدى ممثلًا سينمائيًا كانت متواضعة، وبالرغم من ذلك ألح شاهين عليه للقيام بالدور، بل واستجاب لطلباته لأنه رأى فى ملامح والدى الريفية وفى صوته الجهورى تجسيدًا لشخصية بقال القرية.
كان ذلك حين جاء شاهين ذات مساء إلى بيت ومكتب والدى فى شارع عدلى بالعمارة رقم ١٤، دخل علينا بقامته الطويلة وضحكته التى تسبقه والشعور المبهج الذى ينشره بأن فنانًا مدهشًا قد جاء. نهض والدى من خلف المكتب وعانق شاهين الذى جلس ووضع ساقًا على ساق ثم التفت إلى الصالة البعيدة وكان بصحبته عدد من البنات والأولاد وقال لهم: «اعملوا لنفسكم أى حاجة لغاية ما أخلص، اشربوا شاى، قهوة، كازوزة». وجاءت الشغالة وتلقت طلبات الضيوف، وقال شاهين لوالدى: «أنا بأخطط لفيلم ح يفرقع، عمل تاريخى حقيقى، وعاوزك تقوم فيه بدور».
تساءل والدى: «عمل إيه؟ ودور إيه؟». قال شاهين: «الفيلم قصة أخوك الشرقاوى (الأرض)، وأنت لك عندى دور الشيخ يوسف.. البقال. فاكره؟». يبدو أن كلمة البقال لم تحرك حماسة والدى، لأنه زام قائلا: «بقال إيه وزفت إيه يا جو؟». قال شاهين: «طيب أنا ح أبعت لك الرواية ومخطط أولى للسيناريو. فكر. ده دور لقطة». صاح الخميسى: «ومين قال لك إن أنا بامثل يا جو؟!». فتح شاهين عينيه على آخرهما وتراجع برقبته قائلا باستنكار: «لا ياشيخ ؟! إنت بتمثل وإنت عندك عشر سنين، ولفيت مصر مع فرقة المسيرى تمثيل، ودلوقت جاى تقول لى مين قال لك؟ لو لك طلبات معينة قول لى وخلصنى».
تساءل الخميسى: «طيب مين معايا فى الفيلم؟». قهقه شاهين طويلًا ودق على ركبتيه بكفه وقال: «يا عبدالرحمن.. قصدك إنت مع مين؟.. عموما ح يكون معاك محمود المليجى ويحيى شاهين ومجموعة كبيرة». هز الخميسى رأسه وقال: «طيب. اسمى على الشاشة ح يتكتب قبل المليجى ولا بعده؟».
نهض شاهين من على مقعده وصاح: «كمان عاوزنى أكتب اسمك قبل المليجى؟!». قام الخميسى من على مقعده هو الآخر وصاح بدوره: «ليه لأ؟ المليجى ممثل عظيم، بس أنا ممثل ومفكر وشاعر وصحفى»!.
ظل الاثنان يتجادلان نصف ساعة إلى أن وافق شاهين على أن يكتب اسم الخميسى بنفس البنط، الذى سيكتب به اسم يحيى شاهين ومحمود المليجى لكن فى موضع مستقل فى نهاية أفيش الفيلم، وقد حدث ذلك فعلا.
جلس شاهين بعد ذلك قليلا، ثم قام يودع والدى، وانتبه أخيرا إلى وجودى، فقال: «ومين ده؟». أجابه الخميسى: «ابنى أحمد.. كاتب». ضحك شاهين فى وجهى قائلا: «ح أكتبك بنفس البنط يا أحمد ماتخافش»! وانفجر الاثنان ضاحكين وخرجا إلى الصالة وأنا خلفهما.
تم تصوير الفيلم، وقام الخميسى بدور الشيخ يوسف كأبدع ما يكون، وكتب عنه الناقد السينمائى محمود عبدالشكور يقول: «لو لم يقم الخميسى بدور فى السينما سوى دور الشيخ يوسف لكان جديرًا بأن يدخل تاريخ التمثيل السينمائى على أرفع مستوى».
وقد جسد فيلم «الأرض» أكثر من غيره انتماء يوسف شاهين إلى قضايا الوطن الكبرى، ولم تكن مصادفة أن يتم اختياره بصفته واحدًا من أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية قدمه للفن ولنا مخرج ومبدع نادر المثال.