رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لغز إنسحاب ميليشيات مصراتة من معركة طرابلس


المرحلة الجديدة من عملية طرابلس بدأها الجيش 22 يوليو الجارى، تركزت على محورين: عين زارة ووادى الربيع.. تستهدف إقتحام العاصمة.. حفتر إستبقها بتعيين قائد جديد لعمليات المنطقة الغربية.. تغيير دماء مطلوب، لمعالجة بعض أخطاء المرحلة السابقة.. ميليشيات السراج شنت هجوماً مضاداً مباغتاً، لإسترداد مطار طرابلس، الا انه لم ينجح، والزخم الأول لهجوم الجيش إستهدف السيطرة على معسكر اليرموك، لكنه لم يوفق.. لازالت الحرب سجال، والمعارك لم تدخل مرحلة العد التنازلى.
السراج أعلن عن مبادرة سياسية، تتضمن عقد ملتقى سياسى، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية قبيل نهاية العام، بعثة الأمم المتحدة بادرت بالترحيب، وخالد المشرى رئيس المجلس الأعلى للدولة ابلغ البعثة إدعاءات تتعلق بإعداد فرنسا ومصر والإمارات خطة سرية للهجوم على طرابلس!!، لحسم المعركة، بإستخدام الطائرات والأسلحة النوعية!!.. محاولة إستباق من جانب حكومة الوفاق، بطرح تبريرات مسبقة حال خسارة المعركة، يتم التمهيد لها سلفاً، كأساس لحملة دولية سياسية مضادة، مايعكس إدراكها لإقتراب الهزيمة أمام الجيش الوطنى.. فما هو سبب ذلك الشعور؟
بمجرد بدء عملية طرابلس 4 ابريل 2019، دفعت مصراتة بتعزيزات عسكرية ضخمة لدعم ميليشيات العاصمة، فى مواجهة سعى الجيش لتحريرها من التنظيمات المسلحة والجماعات الإرهابية، الحرب بالنسبة للميليشيات ليست مقدسة، بل مقابل المنحة التى وزعها السراج بقرابة 2 مليار و484 مليون دينار، فازت منها مصراتة بنصيب الأسد، ثم فاجأت الجميع، بسحب تشوينات أسلحتها، ومغادرة معظم مقاتليها محاور القتال.. تطور إستراتيجى بالغ الأهمية، ينعكس على مسار العمليات، ومستقبل الحرب، ما يفرض التناول.
مصراتة معروفة بخصومتها مع الجيش، منذ تواطؤها مع الناتو لقتل القذافى، والسيطرة على مخازن الجيش، دعمت الفصائل الإرهابية التى حاولت التصدى لعملية تطهير بنغازى والمنطقة الشرقية منتصف 2014، وإستغلت إنشغال الجيش لتكسب معركة «فجر ليبيا» نهاية 2014، وتحتل العاصمة، وتعيد المؤتمر الوطني العام «الإخوانى» للواجهة، وتشكل حكومة موالية.. شكلت «قوة البنيان المرصوص» وحررت سرت من «داعش» 2016 بدعم الطيران الأمريكى.. إشكالية الأزمة الراهنة إذن لاتكمن فى ميليشيات طرابلس، فهى مجرد عصابات مسلحة إجرامية تتولى حماية السراج، ومنشآت العاصمة بالمقابل المادى، وتمارس البلطجة والإرهاب، بمجرد توقف التمويل ينفرط عقدها، ويسهل القضاء عليها.. المشكلة الحقيقية تتمثل فى أن ميليشيات مصراتة تثير الحزازات الجهوية والقبائلية، وتهدد بتفجير حرب أهلية، تنتهى بتكريس التقسيم، وإستحالة عودة الوطن الموحد.. مما يفسر عقد عدة لقاءات بينهم وبين الجيش بوساطة مصرية فى القاهرة، لتجنب ذلك.
ميليشيات مصراتة بدأت تخفف من تواجدها بطرابلس منذ منتصف يونيو، بعد توجه عدد من كتائب الجيش للتمركز فى راس لانوف.. ما خشيت معه ان يكون ذلك مقدمة للقفز على سرت، المحطة الأخيرة التى تفصلها عن مصراتة أقل من 250 كم، يمكن قطعها سريعاً بإستخدام الطريق الساحلى.. إنسحاب مليشيات مصراتة من طرابلس بدأ فعلياً عقب ثلاثة أيام من القتال المتواصل مع الجيش، تعرضت خلاله لقصف جوى كثيف، بصورة أكدت إستحالة صمودها طويلاً.. خاصة بعد أن فقدت الأمل فى أن يؤدى الدعم التركى، الى ترجيح كفتها، فالجيش نجح فى إمتصاص زخم الدعم، رغم خسارة بعض الأراضى المحررة، لكنه تمكن من الإحتفاظ بـ«طوق طرابلس»، وإستنزف الميليشيات، وقام بتصقية العديد من قياداتها.. تدمير غرفة العمليات العسكرية للمستشارين الأتراك بقاعدة معيتيقة الجوية، أدى الى إنهيار معنويات ميليشيات مصراتة.. عرضت على قيادة الجيش فى 9 يوليو الإنسحاب من العاصمة وتسليم أسلحتها، والعودة إلى مصراتة، شريطة بقاء قوة مسلحة بقوام لواء لحماية المدينة!!، وعدم ملاحقة أى فرد، والتعهد بعدم اقتحام الجيش لبلدتهم.. شيوخ القبائل والأعيان والحكماء توسطوا، لكن الجيش إشترط الإنسحاب الكامل، وتسليم كل الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وكل من ارتكب جرائم ومطلوب من المدعى العام والنيابة، وأكد ان تأمين طرابلس مسئولية الشرطة والأمن العام.. موقف حاسم، إنسحبت ميليشيات مصراتة على أثره، دون قيد أو شرط.. فما هى الأسباب والمبررات؟!.
السبب الأول: إعتماد الميليشيات خلال حرب طرابلس على كثافة النيران، لتعويض نقص الخبرة مقارنة بالجيش، ماأوقع بها خسائر فادحة، وصلت لأكثر من 1500 قتيل، بخلاف المصابين والمفقودين والأسرى، وخسائر الأسلحة والذخائر والآليات، و7 طائرات حربية واستطلاع، مما أدى لتذمر عائلات الضحايا، واحتجاجهم على الإستمرار فى الحرب.. الثانى: إنشقاقها الكتيبة 185 التابعة للسراج بطرابلس، وانضمامها للجيش بكامل أسلحتها، ومع بوادر التراجع فى الموقف العسكرى للميليشيات، صار كل قادتهم يخشون تكرار الإنشقاقات، وإنفراط عقد تماسك مقاتليهم القائم على المصلحة.. الثالث: تفاقم التنافسات والخلافات بين ميليشيات مصراتة بقيادة صلاح بادى، وميليشيات طرابلس، بزعامة هيثم التاجورى، حتى أن مقاتليه صاروا ينسحبون من محاور القتال التي يتواجد فيها مقاتلى مصراتة!!، وكذا إنتشار الشعارات المناهضة لتواجدهم فى كل أحياء العاصمة، هذه الخلافات أكدت ان التنافسات بينهم على السلطة والنفوذ والمصالح المادية أقوى من التحالف ضد الجيش.. الرابع: ان ميليشيات مصراتة تعبر عن إخوان ليبيا، وهى تخشى من أنها وهى تحارب معركة السراج فى طرابلس، ان يقدم هو على عقد تسوية مع الجيش، تطيح بها من المشهد، على غرار ماسبق الإتفاق عليه فى لقاءه مع حفتر بأبوظبى فبراير الماضى، بشأن دخول الجيش الى العاصمة، لكن الإخوان نجحوا فى إسقاطه، ما أشعل معركة طرابلس.
إنسحاب ميليشيات مصراتة من معركة طرابلس تزامن مع مؤشرات خلاف بين السراج وتيار الاسلام السياسى الذى يهيمن على الحكومة ومجلس الدولة، عبرت عنه إنتقادات عبدالرحمن الشاطر عضو المجلس لسوء معالجة السراج لتطورات الموقف سياسياً ودبلوماسياً، خاصة مايتعلق بقصور التعامل مع أزمة صواريخ جافلين الفرنسية بغريان.. كما تزامن مع دعوة حسين بن عطية عميد بلدية تاجوراء فى 16 بوليو، لأعيان وحكماء ونشطاء المجتمع المدني بالمنطقة الغربية الى إجتماع لبحث فصل الحكومة عن المجلس الرئاسى، والإطاحة ببعض المناصب الحساسة، وذلك فى مؤشر لقرب تهميش السراج، وتشكيل ما يطلق عليه «حكومة حرب» أو «حكومة ميليشيات».
فى الوقت الذى تجرى فيه هذه التطورات، أبدى قرابة 70 نائب من مجلس النواب الليبى الذين إجتمعوا بالقاهرة إستعداداً لتشكيل حكومة وحدة وطنية.. فارق كبير بين من يعدون لبدء مرحلة جديدة من تصعيد المواجهات، ومن ينشدون الوحدة الوطنية، والإستعداد لما بعد إنتهاء الحرب، وإستعادة الأمن.