رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قنطرة الذى كفر




أعاد الباحث والناقد والأديب المتميز، «شعبان يوسف»، اكتشاف رواية مصرية بديعة: «قنطرة الذى كفر»، كان الزمن قد أهال عليها تراب الإهمال وركام التجاهل، فبعثها من بعد طول نسيان، ووفَّرها للقارئ مصحوبة بمقدمة إضافية تشرح خلفيات القصة وظروف كتابتها ونشرها، وموقع الكتابات بالعامية المصرية الدارجة ومكانة هذه القصة بينها، مع ملاحق متعددة، تضمَّنت منتخبات من قصص قصيرة للكاتب، ومجموعة من مقالاته السياسية، إضافة إلى عدد من الدراسات والعروض للرواية بأقلام نخبة من كبار الكتاب والنُقـَّاد.
رغم أن هذا العمل الأدبى المُتميّز، قد نُشرَ قبل ذلك مرتين: الأولى على حساب المؤلف فى الستينيات، والثانية فى «كتاب الأهالى» بعد ذلك بعقود، إلّا أن تواضع الاهتمام النقدى به، وبؤس حال الوضع الثقافى العام، حال دونه ودون نيل ما يستحقه من عناية ومناقشة.
ومرجع هذه العناية الواجبة يعود، أولًا: لقيمة الرواية التاريخية والأدبية، فهى من الروايات النادرة التى كُتبت على امتداد تاريخ الرواية المصرية باللهجة العامية الخالصة، وهى لهجة عاميّة راقية، لا تَبَذُّل فيها ولا سوقيّة، وإنما تنساب بين الصفحات بعذوبةٍ وطلاوة، وحلاوة وصفاء.
ثانيًا: أن كاتبها هو واحد من العلماء المصريين النوابغ الدكتور «مصطفى مصطفى مُشَرَّفة»، شقيق العالم الفذ «على مصطفى مُشَرَّفة»، والكاتب لم يُبدع فى كتابة روايته وحسب، وإنما أبدع فى صناعة فصول حياته ذاتها، التى شهدت صراعًا ضاريًا ضد مرض عضال أقعده حبيس الفراش لسنوات، وضد إغراءات الانتماء للغرب المُتَقَـدِّم، والهرب من ظروف وأوضاع مصر القاسية، والتى واجهها جميعها بإرادة من فولاذ، جعلته يتجاوز محنته، ويتغلب على إحباطاته النفسية والبدنية، ويكتب ليبث الوعى فى أبناء شعبه، وليصبح أشد ارتباطًا بوطنه وقضاياه المصيرية، وفى مقدمتها الحرية والتقدّم، وليبشر بعالم خال من الحروب والاستغلال، بعد أن تأثر بموجات الفكر الاشتراكى، التى سادت العالم بعد الحرب الكونية الأولى.
ثالثًا: لأن الرواية كُتبت فى مناخ الثورة الوطنية الكبرى، ثورة ١٩١٩، التى مرّت عليها مائة عام بالتمام، وترددت أصداء أحداثها، وهتافات مظاهراتها، ورصاصات المحتلين الإنجليز التى دوت وعذابات شهدائها، فى خلفياتها، فعكست، دون أن تسقط فى الدعائية والُمباشَرة، مناخ الثورة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى دفعت إليها.

وصف الدكتور «يوسف إدريس» هذه الرواية فقال إنها «رواية كتبها أستاذٌ كبير، له فى كل فرع من فروع المعرفة باع»، وإنها أروع ما كُتب عن ثورة ١٩١٩، إذا نحينا جانبًا «عودة الروح» لأستاذنا «توفيق الحكيم»، والجزء الخاص فى ثلاثية كاتبنا الكبير «نجيب محفوظ»، فى حين رأى الأكاديمى والناقد الكبير الدكتور «شكرى عيّاد» أن «صفحات الرواية التى لم تبلغ المائة تبقى من أجمل ما كُتب فى الفن الروائى بلغتنا»، بينما اعتبر الأديب والناقد «محمد روميش» أن رواية «قنطرة الذى كفر» أثبتت قدرة «اللغة الشعبية على إقامة عمل أدبى متكامل، انداح فيه الشكل فى المضمون، لعله لأول مرة فى تاريخ الأدب المصرى، مرورًا بتجارب «عبدالله النديم»، و«بيرم التونسى»، ومذكرات طالب بعثة للدكتور «لويس عوض». أما الأديب الكبير «إبراهيم أصلان» فقد ذهب إلى أنه «لو ذاعت (هذه الرواية) فى حينها (أى وقت نشرها لأول مرّة فى الستينيات من القرن الماضى)، وانتشرت بين القُرّاء والكُتّاب على النحو الذى تستحق، ولم تُسدل عليها أستارٌ من التجاهل المقصود، أو غير المقصود، لتغيّر وجه الكتابة فى مصر».

فما هو محتوى هذه الرواية التى أولاها كل هؤلاء «الكبار» هذا الاهتمام؟، ولماذا أُسدلت عليها أستار التجاهل؟. الأسبوع المقبل نلتقى.