رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بريطانيا بين غروبين


اليوم، الثلاثاء ٢٣ يوليو، يصبح بوريس جونسون رئيسًا لوزراء بريطانيا، وكما كان صباح هذا اليوم هو بداية غروب الشمس عن الإمبراطورية العظمى، أو التى كانت كذلك، فإن المذكور قد يجعل الشمس تغرب عن بقايا تلك الدولة المريضة. وقد يجعلنا نشهد، خلال شهور أو سنوات، نهاية «المملكة المتحدة» بشكلها الحالى!.

الحرب العالمية الثانية خلقت أوضاعًا دولية مختلفة عن تلك التى عرفها العالم قبلها، خاصة فى المستعمرات، البريطانية والفرنسية، التى تصدرت قضية الاستقلال كفاحها الوطنى. وكانت مصر بين تلك الدول، أو أبرزها، نظرًا للدور الذى لعبته فى استقلال دول عديدة، بعد أن تخلصت ثورة ٢٣ يوليو نهائيًا من الاحتلال البريطانى، ووضعت القضية القومية فى سياق ثورى، واقعى، وعملى، وأعطت لمكافحة الاستعمار أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكانت النتيجة غروب شمس الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وأزيحت الدولتان من قائمة الدول العظمى، ليصبح العالم تحت سيطرة كتلتين أو قطبين: الولايات المتحدة التى قادت الغرب الرأسمالى، والاتحاد السوفيتى ومعه الشرق الاشتراكى.

سبع وستون سنة، تفصل بين ذلك الغروب، وبين بداية العد التنازلى للغروب الوشيك، الذى نتوقعه، ويتخوف منه جوردون براون، رئيس الوزراء البريطانى الأسبق، ودفعه إلى التحذير من أن «جونسون» قد يكون آخر رئيس وزراء للمملكة المتحدة، بشكلها الذى يعرفه العالم حاليًا، بعد انفصال إسكتلندا، كنتيجة طبيعية لمعاداة الحركة المحافظة المناهضة لأوروبا، التى دعمها جونسون، للإسكتلنديين. وما يؤكد مخاوف «براون» هو أن العلاقات متوترة بالفعل بين جونسون وروث ديفيدسون، زعيمة حزب المحافظين فى إسكتلندا.

استباقًا للغروب الوشيك، الذى سيبدأ اليوم، ٢٣ يوليو، خرج عشرات الآلاف من البريطانيين، السبت الماضى، إلى شوارع لندن ليقولوا «لا لبوريس.. نعم لأوروبا». ولعلك تعرف أن الشعب البريطانى لم يكن له دور فى اختياره. وأن نواب حزب المحافظين فى مجلس العموم هم الذين قاموا باستبعاد ثمانية من عشرة مرشحين، تاركين اثنين فقط لأعضاء الحزب، البالغ عددهم نحو ١٦٠ ألفًا، ليختاروا منهما من سيزور الملكة إليزابيث الثانية، الأربعاء، ليتم تكليفه برئاسة الحكومة. وبالتالى إدارة ملف الخروج من الاتحاد الأوروبى «بريكست»، ولملمة ما تبقى من كرامة المملكة بعد مرمطة سفيرها السابق لدى واشنطن واحتجاز إيران الناقلة «ستينا إيمبرو».

جونسون، كان أبرز الداعمين لـ«بريكست»، ولعب دورًا كبيرًا فى استفتاء يونيو ٢٠١٦. ومن غير المستبعد أن يقرر الخروج بلا اتفاق، فى ٣١ أكتوبر المقبل. وهو كما أشرنا من أصول تركية، وكنا قد استعرضنا، فى مقال سابق، مسيرته التى بدأها صحفيًا فى جريدة الـ«تايمز» التى استغنت عن خدماته بسبب فبركاته، مرورًا باختياره متحدثًا باسم الحزب ووزير دولة للفنون، قبل أن يضطر سنة ٢٠٠٤ إلى الاستقالة من الوزارة، بسبب الكذب.. و.. و... وصولًا إلى اختياره وزيرًا للخارجية، ثم استقالته احتجاجًا على الاتفاق الذى توصلت إليه «ماى» مع المفوضية الأوروبية، ورفضه مجلس العموم ثلاث مرات.

خلال حملته رئاسة المحافظين، لوّح جونسون بإمكانية الانفصال دون اتفاق مع بروكسل. فى حين توقع معهد حكومى بريطانى، فى تقرير صدر الخميس، أن تدخل المملكة فى حالة ركود إذا غادرت الاتحاد الأوروبى دون اتفاق، كما توقع أن تتراجع قيمة الجنيه الإسترلينى بنسبة ١٠٪ على الفور، وفق هذا السيناريو، وأن يتضاعف عجز الموازنة. وأوضح أن المملكة ستدخل فى حالة ركود تبدأ فى الفصل الرابع من ٢٠١٩، مع تراجع إجمالى الناتج المجلى بنسبة ٢.١٪، مرجحًا أن يؤدى هذا السيناريو إلى زيادة الاقتراض الحكومى سنويًا، بدءًا من العام المالى ٢٠٢٠- ٢٠٢١، بمعدل ٣٠ مليار جنيه إسترلينى.

مصر أم العجائب، وثوراتها من عجائبها. وكما لم يستطع الساسة البريطانيون، استيعاب أو هضم تتابعات الغروب الأول، الذى بدأ بثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فإن حماقاتهم وسوء تقديراتهم هى التى قادت وستقود إلى الغروب الثانى، الذى كان بين مسبباته رهانات المملكة الخاطئة، وألعابها القذرة على الساحة الدولية، وتحديدًا فى دول منطقة الشرق الأوسط، قبل وبعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣. وهى الحماقات، الرهانات، والألعاب التى جعلتها تعيش حالة الفوضى، طوال السنوات الثلاث الماضية، وستزيد حدتها، خلال الشهور أو السنوات المقبلة.

أخيرًا، وكما بدأنا بتحذيرات جوردون براون، فإن النهاية الأنسب قد تكون برهانات جورج جوردون، أستاذ الأدب الإنجليزى، الذى أدرك قبل وفاته، سنة ١٩٤٢، أن «إنجلترا مريضة» وراهن فى إنقاذها على الأدب، لو نجح فى تحقيق ثلاثة أهداف: أن يظل مصدرًا للبهجة والإرشاد، أن ينقذ أرواح البريطانيين، وأن يعالج الدولة. واليوم، لا نعتقد أن هناك أى فرصة لعلاج تلك الدولة المريضة، التى استبد بها المرض، سواء بالأدب.. أو بقلة الأدب!.