رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والدائرة الإسلامية «4»




إن الفهم الحقيقى لطبيعة الموقف المصرى تجاه مسألة الأقلية المسلمة فى يوغوسلافيا فى الحقبة الناصرية قد تحكمه عدة عوامل مهمة، قد تتشابه هذه العوامل خلال الحقبتين الليبرالية والناصرية فى جوانب معينة، وتختلف فى الكثير من الجوانب الأخرى، فبصفة عامة نستطيع القول بثبات الدافع الإسلامى فى كلتا الحقبتين، وإن اختلفت المساحة المتاحة لهذا العامل فى الحقبة الناصرية، سواء على المستوى الرسمى أو الشعبى، ثم يأتى عامل تغير العلاقات الدولية بالنسبة لمصر فى الحقبة الناصرية ليضفى أثرًا مهمًا على مسألة موقف مصر من الأقلية الإسلامية فى يوغوسلافيا، كما سيتضح ذلك فيما بعد.
مهما كان حجم الاختلاف حول البُعد الإسلامى فى السياسة الناصرية، فإن أحدًا لا ينكر وجوده، وإنما المرجح أن هذا البُعد قد تراجع ليفتح مجالًا أمام أبعاد كانت أقل أهمية منه فى العصر الليبرالى. إذ يؤكد ناصر- فى فلسفة الثورة- أهمية العامل الإسلامى، ولكنه وفقًا لنظرية الدوائر التى حكمت السياسة الخارجية الناصرية، تأتى فى المقدمة الدائرة العربية ثم الإفريقية، ثم أخيرًا الدائرة الإسلامية.
لكن هذه الرابطة الإسلامية، من وجهة النظر الناصرية، لا ينبغى أن تعتدى على السيادة الداخلية للدول التى يعيش فيها المسلمون، سواء كانوا أغلبية أو أقلية بها، ولسنا هنا فى مجال تقييم هذا الجانب من السياسة الدولية الناصرية، وإنما مدى انعكاسه على موقف مصر تجاه الأقلية المسلمة فى يوغوسلافيا.
فلقد طرأت على السياسة الخارجية المصرية فى العهد الناصرى متغيرات عديدة سواء نتيجة التوجه الأيديولوجى للنظام، أو تغير الموازين الدولية وتصاعد الحرب الباردة، وما ترتب عليها من ظهور كتلة عدم الانحياز كمتغير جديد على الساحة الدولية. والجدير بالملاحظة هنا الدور الكبير لمصر ويوغوسلافيا فى هذه الكتلة، وتوطد عُرى الصداقة بين ناصر وتيتو.
من هنا حكم الموقف الرسمى المصرى من مسألة الأقلية المسلمة فى يوغوسلافيا عامل الدائرة الإسلامية التى تكلمتْ عنها فلسفة الثورة، والعلاقات الخاصة المصرية اليوغوسلافية نتيجة سياسة عدم الانحياز، ويتضح ذلك جليًا عند زيارة ناصر يوغوسلافيا فى صيف عام ١٩٥٨.
فقد أعدت الخارجية المصرية تقريرًا شاملًا عن أحوال يوغوسلافيا والرئيس تيتو، لرفعه إلى ناصر قبيل سفره، ويلاحظ فى هذا التقرير أن الخارجية المصرية أشارت إلى مشاكل الأقلية المسلمة فى يوغوسلافيا، وموقف الحكومات المصرية فى هذا الشأن منذ عام ١٩٤٧، أى قبل الثورة.
وانتقل التقرير بعد ذلك لرسم الصورة الحالية لمسلمى يوغوسلافيا، موضحًا أنهم يتمتعون بكل الحقوق السياسية والاجتماعية كبقية مواطنيهم، إلا أنه أشار إلى أن الدين الإسلامى قد أصبح لديهم عبارة عن مجموعة من التقاليد والعادات الاجتماعية أكثر منه دينًا بالمعنى المعروف، وأرجع التقرير ذلك إلى تحريم التعليم الدينى من جانب الحكومة اليوغوسلافية، وأثر تطبيق المذهب الشيوعى على تضاؤل النفوذ الدينى، وأخيرًا انعدام الصلة بين المسلمين اليوغوسلافيين والدول الإسلامية الأخرى.
ولم يحاول التقرير رسم سياسة مصر الناصرية تجاه مسلمى يوغوسلافيا، وإنما أشار إلى أنه من الممكن لمصر أن تستفيد من «علاقات الود والصداقة التى تجمع بين الرئيس جمال عبدالناصر والرئيس تيتو»، من خلال انتهاز فرصة سفر ناصر ليوغوسلافيا للقيام «بعمل إيجابى» يستفيد منه مسلمو يوغوسلافيا. وألمح التقرير إلى إمكانية القيام بذلك من خلال تقوية الروابط الثقافية والدينية بينهم وبين الأزهر، وهو هنا يتماشى مع السياسة الناصرية فى الاستفادة من المكانتين الدينية والتاريخية للأزهر فى ربط المسلمين بمصر.
وبالفعل أبحر ناصر فى ٢٨ يونيو إلى يوغوسلافيا، على أساس أن تبدأ المباحثات الرسمية بينه وبين تيتو فى ٦ يوليو، وكانت يوغوسلافيا تنتظر هذه الزيارة بشكل خاص، نظرًا لتعقد السياسة الدولية آنذاك والموقف الحاد من جانب الكتلة الشرقية التابعة للاتحاد السوفيتى تجاه يوغوسلافيا، ومحاولة يوغوسلافيا استثارة كتلة عدم الانحياز إلى جانبها.
ويبدو أن تعقد السياسة الدولية والمشاكل الحادة التى ظهرت فى تلك الفترة قد خطفا اهتمام ناصر أكثر من مسألة البُعد الإسلامى، ففى تلك الفترة عاش العالم فترة قلقة، سواء فى الشرق الأوسط من خلال وحدة مصر وسوريا وآثارها الدولية، فضلًا عن توتر الوضع الداخلى فى لبنان فى عهد كميل شمعون، والدور الخفى المصرى فى أحداث لبنان، وما تلاه من التهديد الأمريكى بالتدخل فى لبنان، وانقلاب عبدالكريم قاسم فى العراق، والصراع التركى اليونانى فى قبرص، ثم تحرش الكتلة الشرقية بيوغوسلافيا.
وفى وسط هذا الخضم من الأحداث العالمية كان لا بُد أن يختفى هذا البُعد «الإسلامى» الإضافى فى السياسة المصرية، ليفسح مجالًا أمام البُعد الدولى الذى يفضله النظام الناصرى، أو الذى كُتب عليه أن يفضله، ولم يتضمن البيان المشترك عن الزيارة أى إشارة إلى المسألة الدينية أو دور الأزهر تجاه مسلمى يوغوسلافيا.