رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العرس الكروي الأفريقي يقدم إجابات على أسئلة مثيرة للجدل في ثقافة الساحرة المستديرة

جريدة الدستور

بقدر مايمنح العرس الكروي الأفريقي البهجة لكل عشاق اللعبة الجميلة في العالم فإن هذا العرس الذي يختتم على المستطيل الأخضر المصري بعد غد الجمعة يقدم إجابات على أسئلة في ثقافة الساحرة المستديرة الكونية والتي تشهد في السنوات الأخيرة محاولات مثيرة للجدل "لبرمجة اللعبة وقولبتها في معادلات رياضية"، فيما تثير اللعبة أيضا مشاعر الحنين أو "النوستالجيا" لدى أجيال تنظر لكرة القدم كمرادف للبهجة البريئة بعيدا عن التحليلات الإحصائية والحسابات الفيزيائية.

وعلى إيقاع الساحرة المستديرة ومع اقتراب لحظة اختتام العرس الكروى الأفريقي فى أرض الكنانة تتصاعد المشاعر الدافئة والحميمة لعشاق الساحرة المستديرة وهم يستعدون لوداع واحدة من أهم البطولات الكروية في العالم.

ومع مشاهد للعبة الجميلة في الملاعب المصرية التى استضافت النسخة الثانية والثلاثين لبطولة كأس أمم أفريقيا فإن هذه المشاهد في تلك البطولة الكبيرة ستتحول إلى جزء عزيز من ذاكرة الساحرة المستديرة وصفحة مضيئة في لعبة لها عشاقها في كل مكان حول العالم وكثير منهم يشدهم الحنين للقطات ومشاهد مبهرة على المستطيل الأخضر.

وإذ يرى خبراء فى التحليل النفسى بالغرب مثل ايليز كرامير - أن اسئلة الحنين بما في ذلك تلك التي ترتبط بكرة القدم تستعيد غالبا وجوها ومشاهد وصورا ومواقف، فيما تفرض هذه الأسئلة نفسها على الذاكرة للأشخاص الذين ينتمون لفئات عمرية تبدأ من سن العشرين وحتى سن التسعين فإن السينما لم تكن بعيدة عن "الحنين في عالم الساحرة المستديرة".

وآخر تجليات تلك الظاهرة ذلك الفيلم الوثائقي الجديد عن النجم الأسطوري الأرجنتيني دييجو مارادونا والذي عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي وبدأ عرضه تجاريا في دور السينما بالغرب في شهر يونيو الماضي ليحظى بإقبال كبير من جماهير لم تنس بعد إبداعات الساحر مارادونا وأجيال جديدة تدرك أن هذا الساحر أسطورة من أساطير الساحرة المستديرة.

وهذا الفيلم الوثائقي يتناول "سنوات مارادونا في فريق نابولي الإيطالي" بين عامي 1984 و1991 وفوزه مع منتخب الأرجنتين بكأس العالم لكرة القدم في عام 1986 حتى غروب شمسه بفعل عجزه عن الصمود أمام الضغوط وعوامل الغواية الغلابة أحيانا.

وليس هذا الفيلم الوثائقي الذي أخرجه المخرج البريطاني الجنسية اصف كاباديا هو الأول عن الأسطورة مارادونا فقبل نحو عشر سنوات قدم المخرج البوسني الأصل أمير كوستوريكا فيلما عن "السوبر ستار الخالد في تاريخ الساحرة المستديرة" يبدأ بقول مأثور للكاتب والشاعر الأرجنتيني العظيم خورخي لويس بورخيس وينتهي بأغنية للمطرب الفرنسي والأسباني الأصل مانو شاو.

وبصرف النظر عن مقارنات تثيرها مثل هذه الأفلام في الأذهان بين عظماء الساحرة المستديرة في أجيال متعددة كمارادونا وبيليه وبوشكاش وبيكينباور وكرويف وجورج بست وصولا لليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو ومحمد صلاح فمثل تلك الأسماء تشكل في الواقع أجمل ذكريات اللعبة الجميلة والأبطال في اللعبة الأكثر شعبية بالعالم.

ولأن مسألة الحنين لها انعكاساتها ونتائجها الهامة حتى فى عالم التسويق وترويج المنتجات واستمالة المستهلكين فإنها باتت موضع دراسة من جانب علماء وخبراء ينتمون لحقول ومجالات معرفية متعددة مثل البروفيسور تيموثى بورك أستاذ التاريخ بكلية سوارثمور فى بنسلفانيا بالولايات المتحدة الذى يقول فى سياق دراسة نشرتها مجلة "سيكولوجى توداى" إن سن العشرين عادة مايكون بداية مرحلة بناء الخيارات المستقلة لأى شخص وغالبا ماتبقى تلك الخيارات حتى نهاية العمر.

وفى متاجر الأدوات الرياضية بدول الغرب ستجد بعض هذه المتاجر قد خصصت ركنا يحوى العديد من المنتجات المرتبطة بالذاكرة الكروية فى تلك الدول من صور وقمصان لاعبين وميداليات وشعارات منقوشة بل وأنواع متعددة من كرة القدم تعكس تطورها المادى وأفكار المصممين للساحرة المستديرة.

وإذا كانت بعض المتاحف الرياضية والملاعب فى الغرب تشكل بحق حافظة الذاكرة وتجسد الحنين للأيام الخوالى فى كرة القدم فإن الملاعب المصرية التي استضافت مباريات البطولة الثانية والثلاثين لكأس أمم أفريقيا ستبقى في ذاكرة عشاق اللعبة الجميلة في القارة الأفريقية والعالم ككل.

والعرس الكروي الأفريقي على المستطيل الأخضر المصري يسهم في الإجابة عن أسئلة مستمرة وتثير جدلا في عالم الساحرة المستديرة مثل ذلك السؤال الذي يفاضل بين المتعة والفوز لفريق ما، فيما شهدت البطولة الأفريقية الحالية منتخبات قدمت المتعة وحققت الفوز معا.

وهذه الأسئلة تأتي في وقت يتغير فيه المشهد الكروي الكوني بسرعة لافتة حتى على مستوى الكتب التي تتناول شؤون وشجون كرة القدم وتشهد اتجاها واضحا نحو مايعرف "بالكتب المسموعة" مع تصاعد في الاهتمام بالتحليلات الإحصائية ولغة الأرقام.

ومن هذه الكتب ذلك الكتاب المسموع لشيست ديوجر كمؤلف وجيم كاسيدي كسارد أو متحدث وصدر بعنوان "تحليلات كروية" وهو كما يشير عنوانه الفرعي يركز على "تقييم الآداء والتكتيكات ومسألة إصابات اللاعبين وتشكيل الفريق عبر تحليلات للبيانات والإحصاءات" بغرض تطوير الآداء وتعزيز ثقافة الفوز كما يتجول مع جديد أفكار نخبة من المدربين واللاعبين.

ورغم أن لغة الأرقام والإحصاءات تثير ضيق من ينظرون لكرة القدم باعتبارها اللعبة الجميلة التي تعكر الحسابات والإحصاءات صفوها ومتعتها فإن هذه اللغة فرضت نفسها على معادلات الكرة الحديثة وباتت البيانات المحسوبة بدقة ظاهرة حاضرة سواء على مستوى التدريب أو اللعب.
ويوضح الكتاب أن هذه اللغة الإحصائية تقدم قاعدة آمنة وموثوق بها للمدربين واللاعبين معا لتحسين القدرات وتطوير المهارات بل ورفع منسوب اللعبة الجميلة وزيادة اللمسات الساحرة التي يهيم بها طربا عشاق الساحرة المستديرة.

وهذا الكتاب عمد لتحليل فني لشتى مكونات ومراحل مباريات مهمة ويقدم أفكارا حول سبل الاستفادة من النظرة التحليلية الإحصائية لتطوير قدرات الفرق الكروية وتحسين الآداء بصورة تصاعدية على مدى أي مباراة ولكن هل تعني ثقافة الحداثة برمجة الساحرة المستديرة وتحويل اللعبة الجميلة لنماذج إحصائية صماء وحسابات رياضية باردة مثلما فعل كريس اندرسون ودافيد سالي وهما مؤلفا كتاب صدر بعنوان "لعبة الأرقام:لماذا كل ماتعرفه عن كرة القدم هو خطأ؟!".

فهذا الكتاب بنزعته الواضحة نحو "برمجة الساحرة المستديرة وتحويلها لنماذج رياضية وإحصائية" يتصادم مع أجواء يحبها عشاق اللعبة الجميلة والذين يبحثون عن متعة الآداء بعيدا عن الأرقام أو البيانات ومع ذلك فهو يثير سؤالا مهما في سياقات مايعرف بكرة القدم الجديدة "هل يمكن للساحرة المستديرة أن تتعلم شيئا من عالم الأرقام والإحصاءات أم أن هذا العالم بأرقامه وتحليلاته الإحصائية ونماذجه الحاسوبية يفسد اللعبة ويجعلها في الحقيقة "منزوعة البهجة"؟.

وفي كتاب"لعبة الأرقام: لماذا كل ماتعرفه عن كرة القدم هو خطأ؟!" يناقش كريس اندرسون ودافيد سالي طرفا من هذه القضية حيث بات علماء الرياضيات على تماس مباشر مع الملاعب والرياضة لا كما تعشقها الجماهير وإنما عبر الرياضيات بصرامتها وجديتها وأرقامها الجافة.

ودافيد سالي هو عالم متخصص في نظريات السلوك الاقتصادي ويحب أن يصف نفسه بأنه "محدث كرة قدم"، أما كريس اندرسون فهو أستاذ جامعي في العلوم السياسية وكان من قبل يلعب كرة القدم في دوري الدرجة الرابعة الألماني وهاهما يثيران الكثير من الأسئلة في هذا الكتاب عن لعبة الأرقام والإحصاءات وبناء النماذج الحسابية الرياضية في عالم الساحرة المستديرة.

فثمة اتجاه واضح بالفعل في الغرب "لبرمجة الألعاب الرياضية ومزجها بالرياضيات" وبحيث يكون المدرب أو الإدارة الناجحة في هذه الحالة هي الأكثر براعة في بناء النماذج الإحصائية والقيام بتحليلات رياضية يعول عليها في الفوز.

وفي كتاب"لعبة الأرقام: لماذا كل ماتعرفه عن كرة القدم هو خطأ؟!" فإن المعنى الذي يزعج عشاق اللعبة الجميلة كما عرفتها أجيال تلو أجيال أن اللاعبين أنفسهم يمكن أن يتحولوا لشيء أقرب للإنسان الآلي أو الروبوت.

ولاجدال أن كل هذا السيل من الأرقام ينزع البراءة عن لعبة اقترنت بكثير من البراءة عبر تاريخها المديد ويؤدى لتآكل البهجة في عالم الساحرة المستديرة وكرة القدم على وجه الخصوص تختلف عن كثير من الألعاب الرياضية الأخرى.

وهناك في الولايات المتحدة من يسمونهم بسحرة الأرقام والذين يختزلون لعبة البيسبول بكل شعبيتها لدى الأمريكيين لمجموعة من الجداول والأرقام التي تتصادم بجفافها وغلظتها مع مشاعر دافئة من الحماس والرغبة في المتعة لدى مشجعي هذه اللعبة الذين لايعنيهم كثيرا في الملاعب النظريات الجديدة في الرياضيات الحديثة لعلماء جامعة اوكلاند.

ولم تتردد هوليوود في التقاط هذا الخيط لتصنع منه فيلما سينمائيا بعنوان "مونيبول" عن قصة حياة أحد نجوم لعبة البيسبول في الولايات المتحدة الأمريكية وهو بيلي بين الذي تحول لعالم الإدارة في هذه اللعبة بعد أن كان أحد نجومها في الملعب.

وعندما فقد أبرز لاعبيه في فريقه المتواضع بانتقالهم لأندية كبيرة من أجل الأجور الطائلة يقرر بيلي بين اللجوء لعالم الأرقام ونظرياتها وخبراء الرياضيات والتحليلات الإحصائية والحاسوب ويحقق بالفعل نتائج رائعة، لكنه يثير غضب عشاق اللعبة الذين لايقبلون هذا المفهوم الجديد بأرقامه وتحليلاته الإحصائية المتصادم مع المتعة الحقيقية للعبة.

وكرة القدم تحتلف أيضا عن لعبة البيسبول من حيث صعوبة "قولبتها أو برمجتها وتحويلها لنماذج رياضية وتحليلات إحصائية بسبب طبيعة الساحرة المستديرة وخاصيتها الأصيلة في صعوبة التنبؤ على وجه اليقين بنتائج مبارياتها"، لكن ذلك كله لم يفت في عضد هؤلاء الساعين "لبرمجة الساحرة المستديرة" وتحويلها لنماذج إحصائية مثلما فعل كريس اندرسون ودافيد سالي في كتابهما "لعبة الأرقام" الذي تضمن تحليلات لـ 8232 مباراة في بطولات الدوري الكبرى بدول أوروبية مابين عامي 2005 و2011.

وبناء على التحليلات الإحصائية يؤكد المؤلفان على عدم صحة مقولات ترددت طويلا حتى باتت من الأمور المسلم بها في عالم الساحرة المستديرة مثل مقولة "أن الفريق الذي يسدد أكثر على مرمى الفريق المنافس تزيد فرصه في الفوز وكذلك مقولة أن الضربات الركنية لأي فريق تعني زيادة فرصه في تسجيل أهداف".

والحقيقة أيضا أن هذا الاتجاه ليس وليد اليوم وإنما يرجع لخمسينيات القرن العشرين عندما حاول تشارلز ريب الذي يصفه الكتاب "بالرائد في برمجة كرة القدم وبناء نماذج إحصائية ورياضية للعبة" أن يفرض هذه الرؤية ونشر بالفعل طروحات له في مطبوعة تحمل اسما دالا في هذا السياق وهو:"تحليلات المنافسة".

وبالتأكيد الكثير من المدربين في الغرب يرفضون أو يتحفظون بشدة هذا الاتجاه وعلى حد ماورد في هذا الكتاب فإن أحدهم قال إن "الكمبيوتر لايستطيع قياس مشاعر اللاعب أو سبر أغوار روحه قبل أي مباراة" ومدرب آخر صاح بغضب "أن على أصحاب هذا الاتجاه الغريب أن يحتفظوا لأنفسهم بنماذجهم الإحصائية وقوالبهم المبرمجة وأرقامهم وحساباتهم الرياضية ".

ولن يختلف الأمر كثيرا مع كتاب آخر صدر بعنوان:"سنكون أبطال كأس العالم..الفيزياء وكرة القدم" للبروفيسور متين طولان أستاذ الفيزياء بجامعة درتموند وهو ابن عائلة تركية مهاجرة لألمانيا، فيما يرى أنه إلى جانب الحس والشعور والرغبة فى الانتصار هناك عوامل ذات صبغة علمية بحتة مثل الخواص الميكانيكية للحركة والبصريات والحركة الديناميكية والقوة البدنية وهى عوامل قد تلعب الدور الحاسم فى إحراز النصر على المستطيل الأخضر.

ورغم تخصصه العلمى الدقيق فإن متين طولان الذي ولد عام 1965 عاشق كبير لكرة القدم ومتحمس بشدة لمنتخب الماكينات الألمانية ومن ثم فقد طرح المؤلف نظريات وآراء علمية اعتبر أن تطبيقها على المستطيل الأخضر يكفل للمنتخب الألمانى الفوز بالمونديال.

ويذهب متين طولان إلى أنه قام فى مونديال 2006 الذى استضافته ألمانيا، بوضع قواعد لصيغة علمية تضمن لمنتخب الماكينات الفوز ولكن خطأ غير مقصود حال دون ذلك، فيما يحفل الكتاب بالحسابات الفيزيائية التى ربطها بكرة القدم واستخدم المعادلات الرياضية والحسابات لقياس سرعة الركلات، فضلا عن قياس مقاومة الهواء لدفع الكرة واستدارتها.

ومع التسليم بأهمية الاستفادة من كل جديد في العلم والتقنية فهذا الاتجاه المفرط في التحليلات الإحصائية والحسابات الفيزيائية والمعادلات الرياضية يتعارض في منظور الكثير من النقاد الكرويين حتى في الغرب مع حقائق وجماليات كرة القدم.

ومثل هذا الاتجاه المسرف في محاولات برمجة الساحرة المستديرة وقولبتها في معادلات رياضية لا ينسجم مع "كرة القدم الأفريقية الدافئة" والمزيج الكروي العذب الجامع بين الفوز وجمال الآداء كما يتجلى في العرس الكروي الأفريقي على المستطيل الأخضر المصري والذي أثبت مجددا أن أحدا لايعرف الفائز أو الخاسر قبل أن يطلق الحكم صافرته إيذانا بنهاية المباراة وهي حقيقة تشكل وجها أصيلا للجمال والتشويق في اللعبة الجميلة.