رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أين البابا كيرلس السادس؟


فى ١٣ نوفمبر ١٩٥٦ تنيح «توفى» البابا يوساب الثانى البطريرك ١١٣ ودخلت الكنيسة فى مشاكل بسبب صراعات المطارنة على كرسى الإسكندرية!! لكن الله كان قد أعد قائمقامًا حكيمًا ومخلصًا وصادقًا وشجاعًا هو الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف والبهنسا الذى منع المطارنة والأساقفة من الترشح، واقتصر الأمر على فئة الرهبان فقط، كما نصت قوانين وتقاليد الكنيسة.
فى يوم الأحد ١٩ أبريل ١٩٥٩ وهو اليوم المحدد لإجراء القرعة الهيكلية. أقيم قداس بالكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية حضره أساقفة الكنيسة برئاسة القائمقام، وفى مظروف ختمه بالشمع الأحمر- دون أى تكنولوجيا حديثة- وُضعت ثلاث ورقات يحمل كل منها اسم أحد المرشحين «القمص دميان المحرقى، القمص أنجيلوس المحرقى، القمص مينا البراموسى المتوحد»، وذلك أمام جميع الشعب وبحضور السيد د. كمال رمزى ستينو، وزير التموين، ووضع المظروف بداخل الهيكل وقت الصلاة، وفى نهاية القداس فُتح المظروف أمام الجميع وسحب شماس صغير ورقة من داخل المظروف- دون أى تدخل من القائمقام- وخرجت الورقة تحمل اسم «القمص مينا البراموسى المتوحد». وهنا دقت أجراس الكاتدرائية دقات فرح معلنة الاختيار الإلهى الحقيقى، كما دقَّت أجراس كنائس الإسكندرية دقات الفرح باختيار أسقفها المبارك- وكنت وقتها طفلًا بصحبة أبى وأمى وإخوتى بكنيسة السيدة العذراء بمحرم بك- وأعلن الشعب سروره وارتياحه بالاختيار المبارك بعد سنوات من المعاناة، وقد أذيع نبأ الاختيار على جميع موجات الإذاعة المصرية.
فى تلك الأثناء كان القمص مينا البراموسى المتوحد يقيم صلواته بكنيسة مار مينا بمنطقة الزهراء بمصر القديمة، وعندما أبلغوه بالنبأ بكى كثيرًا وهو يصلى، ورفض أن تُدق أجراس الكنيسة، بل أمر بالانتظار حتى يُنهى الصلوات. وبعد أن انتهى من الصلوات توافدت على الكنيسة بمصر القديمة جموع الشعب والأساقفة، فقال وهو خارج من الهيكل لاستقبالهم: «المجد لك يا رب، اخترتنى أنا الضعيف لتُظهر قوتك فى ضعفى، من عندك القوة أعنى، لأنى أرتعب من عظمة موهبتك، أنت أمين وعادل لا تترك محبيك، من عندك القوة، من عندك العون يا إلهنا وفادينا».
فى فجر السبت ٩ مايو ١٩٥٩- كما تقضى التقاليد الكنسية- زار بصحبة المطارنة الدير الذى ترهبن فيه، وهو دير البراموس، ودخل كنيسة الدير وصلى وتبارك من جميع الأماكن المقدسة به ثم زار أديرة السريان والأنبا بيشوى وأنبا مقار، ثم عاد قاصدًا القاهرة فى سيارة وضعها تحت تصرفه الأخوان الفاضلان الأستاذان ونيس وعياد فلتس، وركب معه القائمقام البابوى والأنبا كيرلس مطران البلينا والأنبا بنيامين مطران المنوفية. وصل الركب مشارف القاهرة عند الغروب، واستقبلته جموع كثيرة اصطفت على جانبى الطريق. ولما وصل إلى الكنيسة دخل وصلى صلاة الشكر. ثم اصطحبه قائمقام البطريرك إلى المقر البابوى، ولأول مرة منذ عام ١٩٢٨ يدخل المقر البابوى راهب ليُقام أسقفًا للإسكندرية ولم يحدث بعد ذلك!! فى فجر الأحد ١٠ مايو ١٩٥٩ والجميع نيام، لحظ حارس الكنيسة المرقسية بالأزبكية، براهب نحيف، وطويل القامة ينزل متوجهًا إلى الكنيسة، فاستوقفه وسأله: من أنت؟ وإلى أين أنت ذاهب؟ فقال له باتضاع حقيقى: «أنا اللى بيقولوا حيعملوه بطرك، ونازل علشان أصلى التسبحة»، فقال له الحارس: لكن المرتل لم يحضر بعد!! فقال له: «أنا برضه أعرف أصلى التسبحة». فتوجه الحارس وفتح باب الكنيسة أمام المختار من الله، فدخل الكنيسة منفردًا لكن بلا شك كانت الملائكة تحيط بالمكان. ووقف أمام هيكل الرب وصلى التسبحة التى استغرقت نحو الساعتين، وبعد أن انتهى عاد إلى المقر البابوى. وعندما حضر المرتل والشمامسة عرفوا أن المختار من الله صلى التسبحة منفردًا. مَن مِن الأساقفة الحاليين يعرف كيف يصلى صلاة التسبحة؟.. أو حتى يقرأ اللغة القبطية؟.. أو حتى يعرف بعض قوانين وتقاليد الكنيسة؟.. أو حتى يعرف بعضًا من طقوس الكنيسة العريقة؟ عدد قليل جدًا!! كان يدخل الكنيسة تحيط به الملائكة- لأنه كان رجل الله بالحقيقة- فلم تكن هناك حراسة عسكرية تحيط به!! ويذكر لنا التاريخ أن «نسطور» بطريرك القسطنطينية- صاحب البدعة الشهيرة عام ٤٣١م- كان آخر بطريرك يدخل الكنيسة فى حراسة.
بعد ذلك نزل المختار من الله- وليس من اختيار البشر- يحيط به المطارنة والأساقفة والشمامسة، وعندما بدأت صلوات السيامة وضعوا الأناجيل الأربعة على رأسه «وهذا الطقس الرائع اختفى عندما يُقام أسقف الإسكندرية بالمخالفة من بين الأساقفة!! ولم نره بعد منذ نوفمبر ١٩٧١ وحتى الآن»، ثم وضع القائمقام ومعه المطارنة والأساقفة أيديهم على المختار من الله «وهذا لا يحدث فى أسقف الإسكندرية الذى يُقام من بين الأساقفة». ثم استُكملت طقوس صلوات الرسامة «وليس التنصيب»، وبعد أن انتهت وقف يبارك الشعب فردًا فردًا- رغم الإرهاق الذى كان عليه- لأنه أب حقيقى. اعتاد بعد ذلك أن يقضى فترات كثيرة فى مقر كرسيه بالإسكندرية، وعندما كنا نذهب إلى الكنيسة المرقسية بالإسكندرية، ونسأل: أين البابا كيرلس؟ تكون الإجابة أنه بداخل الكنيسة يصلى، لم يكن بالأوبرا ولا بندوة ثقافية ولا باجتماع مع مسئول سياسى، بل كان يردد ما ورد فى المزمور: «أما أنا فصلاة». كانت الصلوات تحفظه وتحفظ شعبه وتحفظ كنيسته وتحفظ وطنه، فلم تتعرض الكنائس للحرائق ولا الهدم ولا التدمير ولا أى اعتداءات!! إن ما يحدث حاليًا من أمور غريبة تعود إلى ما حدث فى ٤ نوفمبر ٢٠١٢!! فكنا نهرع بداخل الكنيسة- ونحن أطفال صغار- للصلاة معه. والمُحب للصلاة غير محب للمال ولا للمقتنيات ولا الاستراحات المختلفة داخل وخارج مصر.
فى حياته سافر للخارج وبالتحديد إلى إثيوبيا مرتين فقط، وفى كل مرة كان يتوجه من مطار أديس أبابا إلى إحدى الكنائس لإقامة الصلاة «إذ كان يصطحب معه من القاهرة جميع الأدوات المطلوبة للصلاة»، وعندما سافر فى يناير ١٩٦٥ لرئاسة مؤتمر الكنائس الأرثوذكسية الشرقية بأديس أبابا وتأخر عن السفر قام الإمبراطور هيلاسلاسى بتأجيل افتتاح المؤتمر حتى وصول البابا كيرلس السادس. حضر المؤتمر وعاد يوم الأربعاء ٢٧ يناير ١٩٦٥. كانت حياته اليومية صلاة، حتى إن الجرائد والمجلات كانت تتطلع إلى أى نشاط سياسى يقوم به!! وأذكر أنه كانت فى فترة الستينيات مجلة أسبوعية تصدر يوم الأربعاء باسم «بناء الوطن» شبيهة بمجلة «المصور»، ففى عدد ٢٣ فبراير بإحدى السنوات كتبت خبرًا يقول: «صلى البابا كيرلس السادس قداسًا بالأمس بمناسبة عيد الوحدة»!.
وأذكر أنه بعد جلوسه المبارك على الكرسى المرقسى أصدر قرارًا بعودة جميع الرهبان إلى أديرتهم بعد حالة الفوضى التى كانت فى فترة البابا يوساب الثانى. وفى فبراير ١٩٦٢ كان مزمعًا أن يزور القدس، وفى ليلة السفر- كما أخبرنى تلميذه الشماس سليمان رزق- قرر عدم السفر!! ارتجَّت البطريركية من قراره هذا وحاولوا إقناعه لكن دون جدوى! حدث فى وقت الزيارة أنه تم توزيع منشور بالقدس يفيد بأن البابا كيرلس تقابل مع مسئولين إسرائيليين!! وكان هذا المنشور المُزور من إعداد راهب قبطى موجود بالقدس ورفض العودة إلى ديره. وهنا أدرك المسئولون فى البطريركية وفى الدولة مدى تقواه وقداسته. وفى زيارتنا معه لدير مار مينا بمريوط فى ٢٢ يونيو ١٩٦٢، وبعد انتهاء الصلاة وقف شمامسة الكنيسة المرقسية بالأزبكية ونظَّموا مديحًا رائعًا له، قالوا فيه: «صلاتك تحل المشكلات.. وتبين كمان المؤامرات.. وتفضح كل التزويرات.. يا بابا الأنبا كيرلس. أين البابا كيرلس؟ إنه يصلى، وهذا أفضل جدًا