رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العارية والمجنون

جريدة الدستور

علا صوت ضحكتها عندما حكى لها أنه فى شبابه أحب راقصة من عوالم الأفراح وكان يسرح وراءها كل فرح ويشعل لها السجائر وضربه الجمهور ذات فرح عندما أراد أن يجرب الطبلة وراءها فشز الإيقاع

من منا لم يمسسه الجنون ولو لبضع لحظات؟
أوحى له (سراج) بالفكرة- دون أن يقصد طبعًا- فقط اصمت كثيرًا.. ارسم ابتسامة بلهاء عريضة.. اضحك على أى شىء.. تكلم وأنت تأكل والبس جلبابك على اللحم.. انظر بشرود إلى السماء كأنك تتأمل فى الأشياء التى حولك
وعيناك تتفحصان الأشخاص فى بلاهة.
أنت فى ملكوت يا سراج دفعتك إليه قصة حبك الفاشلة.
لم يدع «عبدالباسط» فشله فى الاختيار والحب يدفعانه للجنون، قرر أن يسرق ملكوت سراج طواعية.
نعم سيكون مجنونًا منفصمًا بمزاجه.
ولم لا؟ وهو صغير اصطحبه أبوه لزيارة عمه فى المستشفى الجامعى، اختفى الصغير وبحث الأب والممرضات وعمال المستشفى، حتى وجدوه بعد منتصف اليوم فى قسم الأمراض النفسية، وظل الولد يحكى لأيام طويلة ما رآه من أفعال غريبة للمرضى ويقوم بتقليدهم.
انتظرها حتى دخلت، وجدته على الكنبة المواجهة لباب الشقة متكورًا على نفسه فى وضع جنين.
لم ينظر إليها، ظل محدقًا فى برواز الورود المعلق أمامه، فحصته عيناها تحت جبينها المقطب، ترك شفتيه بنصف انفراجة تمارسان شعور البلاهة هازًا رأسه للأمام والخلف دون تفكير.
أشاحت بيدها ودخلت غرفتها، لحظات وعادت عارية كعادتها.
تأكل؟
سألته فلم ينطق، تركت الصينية الصغيرة- المغطاة بفوطة على طبق وخبز- فوق التليفزيون المفتوح على برنامج أطفال.
قام وجرى، دخل غرفته الداخلية المظلمة، منتظرًا اللحظة التى يقف فيها خلف الباب الموارب فى الظلام ليراها ترقص عارية للشخص المجهول، كما رآها من قبل ثلاث مرات.
فى البداية منحه الزواج من «ميار» هذه الفرصة الجديدة للحياة، لم يصدق نفسه بأنه اقترن بامرأة اسمها «ميار رامز» وهو «عبدالباسط عمران»، صارحها بأنها تفتح له إمكانيات عاطفية جديدة بعد العمر الطويل، الذى لم يشعر بتسربه وقد شارف على الستين، عندما التقيا فى الميدان وهى ترفع العلم وتهتف للحرية بكل طاقتها وعنفوانها وتفاعل جسدها مع الثورة، هى شابة جدًا ونابضة جدًا مثل نفثة من الهواء النقى، رغم علاقاتها السابقة وزواجها المتكرر، لكنها أقسمت له بأنه سيكون آخر رجل؛ لأنه رجل ناضج ويشبه أباها كثيرًا، فقال هامسًا لنفسه ولم لا؟ وهو يكبرها بعشرين عامًا، فسيكون مستوعبًا لها كالأب الذى فقدته وهى صغيرة جدًا، وترك عائلة كبيرة من النساء.
غمرته رائحة البخور.. ها هى قد بدأت طقوسها، أشعلت البخور وانتشر الضوء الخافت.
هو يراها بوضوح من موقعه المظلم، تشبه غانية من غانيات الأساطير، عارية بين دخان البخور والضوء الخفيف، كما كان يراها بوضوح فى الظلام- مفتعلًا النوم- وهى تغلق عليه باب غرفته، مهملة شفتها السفلى ونظرتها تحمل السخرية والاستهزاء، فيستشعر كونه ضئيلًا جدًا فى عينيها وبلا جذور داخلها لما يسمى الحب، الحب الذى ظل يبحث عنه طيلة حياته فى وجوه علاقاته الفاشلة، والذى أظهرته ميار له؛ فألهبها من مشاعره التى استنزفتها قطرة قطرة، وذهبت قبلاتها فى مهب النسيان والذكرى القاسية.
ترتفع دقات قلبه كما يسمع حوارها وهى تضحك فى الهاتف..
- إنه مجنون ولا خوف منه
-..............
- ليته يموت لأرثه
-................
لا يخرج لكن وجوده مثل عدمه
لكنه كان يخرج كل عدة أيام ليقابل «سراج» على أحد الأرصفة، كأنه يحصل منه على دورة فى الجنون والبلاهة واللامبالاة، يختار الوقت أثناء زيارتها لأولادها الأربعة، الذين أنجبتهم من أزواجها الثلاثة المودعين فى مصحات عقلية ومراكز علاج التوحد.
وسراج صديق قديم كانا معًا بالخدمة العسكرية على هضبة السلوم، حدود ليبيا، لكى يلحقا بسهرة رأس السنة قررا النزول عن الهضبة عن طريق الخور- وهو المدق الجبلى من أعلى الهضبة حتى سطح مدينة السلوم- بدلًا من السير على الأسفلت الدائرى الحلزونى، تعثرت قدما عبدالباسط فى الظلام؛ فاختل توازنه وانهار جسده وظل يتدحرج ويصرخ مرتطمًا بالصخور والنتوءات، حتى اصطدم بصخرة احتجزته من السقوط التام فى السفح، وأنقذه عساكر خدمة الخور، قضى الإجازة بين الجبس والأربطة فى مستشفى السلوم للعلاج.
هما أصدقاء الجنون..
وتعلم حركة جديدة، أن يحرك رأسه حركة دائرية واسعة، هذه الحركة جعلته يشعر بأن خوفه من التجربة يتبدد رويدًا رويدًا، وكلما رأت رأسه يدور فى الفراغ تشعر بخوفه فى عينيه، فتزيد من سخريتها لمن تحدثه فى الهاتف «خوفه هادئ بروح أمه» وتضحك عاليًا، فيرسم ابتسامة اللامعنى ويقوم ليدخل غرفته، سامعا ضحكتها وهى تصف خطواته التى تشبه خطوات الخراف المشرفة على الذبح.
فى كل مرة كان صوتها يعلو عليه دون سبب واضح، طوال العامين الماضيين، يتذكر قطعة الشيكولاتة التى أهدتها له فى أول لقاء بعد العديد من المحادثات التليفونية بعد هدوء الثورة، فأذابت قلبه قبل ذوبانها فى فمه، ويقول فى نفسه «إنه الحب»، يعاتبها برقة، وعندما قالت له «أنت لست برجل، والمصروف لا يكفى»..
أسرها فى نفسه وكتم غيظه واشتكى لأمها- أنا أعطيها معاشى كاملًا وفوائد المبلغ المدخر فى البنك، وهذا يكفى وزيادة لمعيشة اثنين فقط، غير أننا نعيش فى شقتى التمليك.
تنهدت الأم العجوز وأفرغت زفرة مخزونها الذى لا يعرفه عنها- اعذرها فهى تعانى مرضًا نفسيًا بسبب أولادها غير الأسوياء، و....
لأول مرة يعرف أنها كادت تقتل ولدها من زوجها الأول، عندما عرفت أن به عاهة التخلف، فطلقت..
وقام الزوج الثانى بطلاقها أيضًا عندما حاولت الانتحار؛ لأنها شعرت بالملل معه وأنجبت الولد الثانى عند أمها- بعد الطلاق- مصابًا بعدم التمييز والصمم.. وهربت من الزوج الثالث بعد اكتشافها أن التوأمين مصابان بالتوحد، فأرسل لها ورقة الطلاق مع خطاب بأنه غادر البلاد منبهًا ألا تبحث عنه وهى تراعى أولادها.
قرأ عبدالباسط هذه الرسالة أثناء بحثه فى أشيائها التى لم تستخدمها، لمجرد أنها أخذتها من أشخاص لم تعد تحبهم.. رسائل.. أوراق. خواطر.. تذاكر سينما.. عقود عرفية بيضاء.. دباديب كثيرة..
كان نفسى تكون علاقتنا سرية لا يعلم بها أحد.. أنا أعشق العلاقات السرية.
قالت له هذه الجملة التى وقعت داخله وقع الصدمة والحيرة بعد عقد القران.
لكنى أحب النور ولا أحب الظلام، كما لا أحب النوم فى غرفة مغلقة.
كان رده بعد تردد.
كما قالت أمها- إن الطبيب النفسى دربها كثيرًا بعد طلاقها الثالث على الثبات الانفعالى.
كان يريد أن يبوح بعلاقته بابنتها منذ عدة شهور قبل اقترانه الرسمى بها، منذ وفاة زوجته وابنه الوحيد فى الحادث الذى انقلبت فيه أول سيارة اشتراها بهم، وخرج بهم فى نزهة على الطريق السريع، وهو لم يتقن القيادة بعد، انحرف عن الطريق ولم يستطع التحكم فى عجلة القيادة لقلة خبرته، فانقلبت بهم السيارة فى جرف عميق، أنقذه المارة ونقلوه للمستشفى؛ ليكتشف عند إفاقته بعد يومين فقدانه الذاكرة وأنه تسبب فى قتل زوجته وابنه الوحيد.
حاول استيعابها وهدهدة أنوثتها وإعطاءها الثقة بالنفس عن طريق حكاياته الغريبة عن حياته لإضحاكها.
ومحاولات ملء الفراغ الذى يطل من عينيها، ذلك الفراغ الممزوج بالحيرة ويشعر به من نظرة هاربة أو قبلة منسية أو رجفة من تنهيدة خارجة من ذكرى.
علا صوت ضحكتها عندما حكى لها أنه فى شبابه أحب راقصة من عوالم الأفراح، وكان يسرح وراءها كل فرح ويشعل لها السجائر، وضربه الجمهور ذات فرح، عندما أراد أن يجرب الطبلة وراءها فشز الإيقاع وكادت تؤثر على بهجة الرقص، وأنزله أصدقاؤه من على خشبة المسرح أثناء رقصها فى إحدى الحارات.
أنت مجنون، حياتك علمتك الجنون.
الوحدة التى كنت فيها قبلك كانت أكثر جنونًا من الواقع.
الحياة فى الواقع أكثر جنونًا فعلًا.
لكن ما الحل إزاء ما نتعرض له من وحدة.
الحل الوحيد فى الموت.. ليتنى أموت.
قالتها باندهاش، ودمعت عيناها.
قص عليها قصة زواجه العرفى السابق من امرأة تزوجت قبله عشرة رجال، وأنها استأصلت الرحم، ومع هذا قرر أن يستقر معها ويعوضها عن العشرة رجال، ليس لشىء إلا لأنه يحب الاستقرار والهدوء.
فوجئ بعد ثلاثة أيام فقط بأنها تطلب منه الطلاق تليفونيًا، وتمزيق العقد العرفى لأن أولادها سخروا منها، وبخوها وهددوها بهجرها.
امرأة مسكينة.
أراد عبر حكاياته أن يحمل عنها حقيبة حياتها التى تحملها على ظهرها، وأحب لحظاتها العارية معه.
يرى هذه اللحظات صافية لتوحد الذات مع الجسد؟ زادت هذه اللحظات، زادت بالانفراد بنفسها والهاتف، الهاتف الذى يحمل علاقاتها السرية، التقطه وهى فى الحمام؛ ليرى محادثات مبتورة «إنه عجوز- ليس برجل- أنا أجربه فقط- أريد أن ينفق فقط» وفيديوهات رقصات وهى عارية.
ها هى الحقيبة تنتقل أكثر ثقلًا على ظهره بصورة هائلة ومستحيلة.
يجب أن يتخفف ويلقى بتلك الحقيبة الثقيلة وأقنعتها التى سقطت قناعًا قناعًا، فى بئر جنونه المزعوم.. قلبه يدق بعنف حينما أمسك بالسكين وأخذ يذبح الدباديب التى احتفظت بها فى كيس مهمل، ويزداد شعوره بالتحرر كما لو كان يزيل لحية زائفة.
جرى وراءها وهى عارية، شاهرًا السكين، لم يسمع صراخها، ولم يسمع أصوات الجيران ولا الاستغاثات الخائفة من عينيه والسكين اللامع فى الظلام، ولم يشعر وهو يقع ويتدحرج على درجات السلم، ولم يشعر بالرجال الذين كتفوه وألبسوه القميص الأبيض بأكمام طويلة وأزرار من الخلف.