رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسمهان ونصف النهائى.. وهلاك كوكب الأرض


قرأتُ منذ أيام عن الكويكب الذى سيصطدم بالأرض، يوم ٣ أكتوبر ٢٠١٩، ويبيد كل الأشياء، ويهلك جميع البشر، ويجعل كل معالم الحضارات المشيدة، والآثار التاريخية، فى «خبر كان».
كل ما يتقاتل حوله الجنس البشرى، من مال، وسُلطة، ونفوذ، واحتلال، وهيمنة، ونزوات جنسية، وامتيازات ذكورية، وحماقات متكررة، وأسلحة، ومخدرات، وتجارة فى النساء، والأعضاء- سيصبح حفنات من الرماد. الكذب، الجشع، الطمع، الغدر، الخيانة، الفتن، التآمر، انعدام الضمير، قلة الأدب، غياب الحياء، انتهاك الخصوصية، إفساد الفن، تخريب الذوق، تشويه السُمعة، تزييف التاريخ، تغطية النساء، تعرية القبح، بروزة أقزام المواهب، تأليه لعيبة الكورة، مستشفيات بلا إسعافات أولية، فيلات الأثرياء، أطفال المليونيرات يسبحون فى البحر، أطفال القرى يسبحون فى ترع البلهارسيا، تقسيم الناس إلى درجات أولى، وثانية، وثالثة.. ومائة، الفكر العنصرى، كل هذا بضربة واحدة من الكويكب، سيصبح كأنه لم يكن.
قرأت عن اصطدام الكويكب بالأرض، وعلى عكس الـ٨ مليارات الذين يمثلون البشرية فى عام ٢٠١٩، لم أشعر بالفزع، والرعب، والجزع. فى الحقيقة شعرت بارتياح، وطمأنينة، وسرور.
شعرت بأننى أخيرًا سأتحرر بفضل هذا الاصطدام الكونى الكبير، ليس عندى أى أسباب تدعونى للتشبث بكوكب الأرض الذى فى غفلة من الزمن وُلدت عليه. ليس لى شىء فى هذا العالم الذى يبطش ويدمر ويسفك الدماء فى وضح النهار تحت اسم «الديمقراطية»، و«حقوق الإنسان»، و«الخلافة الإسلامية»، و«ترويج البضائع»، و«عدالة القضية».
ماذا أمتلك فى هذا العالم؟ لا شىء إلا الغثيان من شدة الظلم، وشدة الفقر، وشدة الزيف، وشدة القهر، التى ترسم الملامح العامة، لكوكب الأرض.
شىء غريب، الظلم لا يفزع البشر، الفقر لا يفزع البشر، الزيف لا يفزع البشر، القهر لا يفزع البشر، لكن اصطدام كويكب بالأرض يفزعهم. أنتظر ٣ أكتوبر ٢٠١٩ كأنما أنتظر عودة حبيب العُمر الذى راح وهو لم يبدأ بعد. مات ضحية الطب الفاجر الجشع، فى أفخر المستشفيات التى تستثمر فى أرواح البشر، وزراعة أعضاء ليسوا فى حاجة إليها. صفّوا دمه، وشبابه، وصحته، وأمواله، جعلوه «جلدًا على عضم»، بعد أن هرب الطبيب إلى خارج مصر. أهذا عالم أتشبث به؟!. أهذا عالم يستحق أن يستمر؟
أنتظر ٣ أكتوبر ٢٠١٩، وليس معى إلا قصائدى، وأوراقى، ورائحة القهوة، و«صوتها»، لها فصيلة دمى، والحمض النووى لأشجانى. إنها الفريدة، المتفردة، الاستثنائية... الغريبة المحيرة فى حياتها، الغريبة المحيرة فى موتها. ابنة أميرة مطربة وعازفة عود. وشقيقة موسيقار مذهل الموهبة، فى الغِناء، والتلحين، وصنع النغمات، جاء ليبقى ويُخلد عبر الأزمان. هو الآخر متفرد فريد. إنها صديقتى الوحيدة، التى يشهد اليوم ١٤ يوليو، رحيلها الخامس والسبعين.
«أسمهان»، وُلدت فى الماء المالح، ماتت فى الماء العذب، ومن الملح، والعذوبة، كانت خيوط صوتها، ونسيج مأساتها.
كثيرون وقعوا فى غرامها، لكنها لم تقع إلا فى «غرام وانتقام»، على يد عميد المسرح العربى «يوسف وهبى». ومعها كل الحق. فهو الفنان الذى استرخص كل شىء، من أجل فنه، وإبداعه. فى عينيه الزرقاوين اختصر نبل كل الرجال، وشهامة الفرسان، وحساسية العُشّاق. كيف تقاومه؟!.
«أيها النائم.. أنا اللى أستاهل.. يا طيور.. يا حبيبى الحقنى شوف اللى جراللى.. فرق ما بينا ليه الزمان.. دخلت مرة جنينة.. كان لى أمل.. نويت أدارى آلامى.. رجعتلك يا حبيبى.. يا بدع الورد.. أنا أهوى.. ياللى هواك شاغل بالى.. أسقنيها.. ليت للبراق عينًا.. إمتى هاتعرف إمتى.. الليل.. إيدى فى إيدك.. انتصار الشباب.. الشروق والغروب.. مجنون ليلى.. غير مُجد فى ملتى واعتقادى.. عليك صلاة الله وسلامه.. الشمس غابت أنوارها».. هذه من بعض الكنوز التى تركتها لنا «أسمهان»، دون وصية أخيرة.
أما لحن «ليالى الأنس فى فيينا»، الذى أهداه «فريد» لها، فأعتبره عملًا موسيقيًا، ينافس أفخم وأشهر المؤلفات الموسيقية العالمية. لحن درامى، ملحمى، متعدد المقامات، والمشاعر المتناقضة، والجمل الموسيقية المبهرة، فى عنفوانها، ورشاقتها، وسلاسة تحولها من إحساس لآخر. هل أحس فريد، بحدسه العاطفى، والإبداعى، أن أخته ستواجه مأساة غامضة، فأراد أن يهديها عصارة مشاعره، وموهبته، وحبه، ليكرمها، ويختم حياتها القصيرة بلحن من ألحان الخلود؟!. ومن الصعب أن نصدق أن «ليالى الأنس فى فيينا»، من كلمات أحمد رامى قد أبدعه «فريد» وهو فى مقتبل العمر، فى عام ١٩٤٤، على الدرجة الأولى من سلم المجد ويقف شامخًا مع ألحان القصبجى، والسنباطى «جهابزة التلحين فى ذلك الوقت»، وقوف الند للند، إن لم يكن أكثر تميزًا.
١٤ يوليو ٢٠١٩ اليوم، ذكرى رحيل «أسمهان» الخامس والسبعين. لكنها تضيع وسط الاهتمام بمباراة نصف النهائى لكأس كرة إفريقيا وترقب النهائى. تختفى «أسمهان»، مثل كل الأشياء الإنسانية الرائعة، الخيرة، النبيلة، النابضة بعدم الانتماء، لهذا الكوكب، الذى يسرنى كثيرًا، أن يختفى فى ٣ أكتوبر ٢٠١٩، بفضل الاصطدام الكونى الكبير المتوقع. إحساسى ينبئنى، أن حتى لو «هلكت» الأرض. فإن «أسمهان»، سوف «تنجو». فمنْ وُلد ومات مثلها فى «الماء» لا يضيع.
من بُستان قصائدى
القوانين التى مهدت الطريق لوجودى
هى نفسها التى ترتب لرحيلى
الهواء الذى حملنى إلى الآفاق
هو نفسه سيحملنى فوق الأعناق
لست أدرى أهذا من عدالة الأقدار
أم عبث سخيف يكتب نهاية المشوار؟