رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لم يكن فيلًا.. أو حمارًا!


صدفة، زى قلتها، جعلتنا نفتح موضوع تداول السلطة فى الولايات المتحدة قبل ساعات من وفاة روس بيرو، رجل الأعمال الأمريكى الذى يكاد يكون المرشح المستقل الوحيد الذى نافس بجدية فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، بعد جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، والمستقل الوحيد الذى فاز بالمنصب. ولولا أننا كنا نجلس على الرصيف أمام مقهى «قهوة»، أى فى الهواء الطلق، لاعتقدت أن الرجل لفظ أنفاسه الأخيرة، كمدًا وغيظًا، بعد أن نقلت له آذان الحيطان تنظيرات محمود الشهاوى التى استقبلها محمد الباز بنظرة ساخرة، ومنع الحياء مهدى مبارك من التعليق، بينما اكتفى صديقنا محمد سليم بأن سحب نفسًا عميقًا من الشيشة!.

مع عدم رضاه عن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، أبدى «الشهاوى» إعجابه بـ«القيم الديمقراطية الأمريكية»، التى أتت برئيس من خارج النخبة السياسية، متجاهلًا أن الرجل مر على «فلاتر» الحزب الجمهورى، التى لا علاقة لها برغبات أو تفضيلات المواطنين، قبل أن يتم دفعه لمنافسة هيلارى كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطى، التى جرى تفضيلها على بيرنى ساندرز، الذى أجمعت كل استطلاعات الرأى على أنه المرشح الأفضل، ليس لدى الديمقراطيين فقط بل لدى الجمهوريين أيضًا. ما يعنى أن الصورة المثالية التى يتم الترويج لها، ويصدقها كثيرون، عن «القيم الديمقراطية الأمريكية»، بعيدة تمامًا عن الواقع الذى يقول إن المنافسة على مقعد الرئيس تكون بين الحزبين اللذين يسيطر عليهما مجموعة قليلة من أصحاب المال والنفوذ.

سنة ١٨٢٨، صار «الحمار» رمزًا للحزب الديمقراطى الأمريكى. وسنة ١٨٧٤ اختار الحزب الجمهورى «الفيل» رمزًا له. وبين الاختيارين، تحديدًا منذ سنة ١٨٥٧، صارت الرئاسة الأمريكية محصورة بين الحمار والفيل، أى بين مرشحى الحزبين. وكان أفضل ما وصل إليه المرشحون المستقلون هو المركز الثانى عامى ١٨٦٠ و١٩١٢. وبعدها، لم يظهر مرشح مستقل ينافس، فعليًا، مرشحى الحزبين، غير «روس بيرو»، الذى حصل فى انتخابات ١٩٩٢ على ١٩٪ من الأصوات، قلَّت إلى ٨٪ حين خاض انتخابات ١٩٩٦ مرشحًا عن حزب الإصلاح. وبدرجة أقل كثيرًا، جاءت محاولات «رالف نادر» الذى خاض الانتخابات ٤ مرات، ولم يكن له وجود ملحوظ إلا فى انتخابات سنة ٢٠٠٠، التى فاز فيها جورج بوش (الابن) على منافسه الديمقراطى، آل جور.

عدم قدرة أى مرشح مستقل على كسر حاجز ديكتاتورية الحزبين يرجع بدرجة كبيرة إلى أن الأمريكيين لا ينتخبون رئيسهم بشكل مباشر، بل عبر المجمع الانتخابى الذى يضم ٥٣٨ مندوبًا، لا تعبر نسبة تصويتهم، بالضرورة، عن نسبة تصويت المواطنين، كما حدث فى انتخابات ١٨٢٤ و١٨٧٦ و١٨٨٨ و٢٠٠٠، وفى الأخيرة تفوق آل جور، بفارق ٥٤٠ ألف صوت على منافسه بوش الابن، غير أن الأخير فاز بالرئاسة لحصوله على ٢٧١ صوتًا فى المجمع الانتخابى، مقابل ٢٦٧ حصل عليها منافسه. وكذا تفوقت هيلارى كلينتون، فى الانتخابات الماضية، بأكثر من ٢.٥ مليون صوت على ترامب، الذى فاز بفارق ٧٤ فى أصوات المجمع الانتخابى، وصار الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة.

فوق ذلك، فإن آراء، اختيارات، أو تفضيلات المواطن الأمريكى العادى يكون تأثيرها ضئيلًا للغاية، وتكاد تكون غير ملحوظة من الناحية الإحصائية على السياسة العامة، ما لم تتوافق مع تلك التى تريدها النخب المسيطرة على الثروة والنفوذ. وهناك دراسة أجراها مارتن جايلنز، الأستاذ فى جامعة «برينستون»، وبنيامين بيج، الأستاذ فى جامعة «نورثويسترن»، قاما فيها بتحليل النظام السياسى الأمريكى وطبيعة جماعات المصالح التى تتحكم فى القرارات السياسية، وانتهت إلى أن المواطن الأمريكى لا يمكنه المشاركة فى السياسة بفاعلية، ما لم يكن عضوًا فى مجموعة النخب التى تسيطر على الثروة والسلطة، وكان لها القول الفصل فى نحو ١٨٠٠ قرار سياسى على امتداد ٢١ سنة هى الفترة التى شملتها الدراسة.

فى مذكراته، التى حملت عنوان «مع أطيب التمنيات: حياتى فى رسائل وكتابات أخرى»، يحكى جورج بوش (الأب) أنه تناول غداءً ممتعًا فى ٣١ مارس ١٩٩٢ مع هوارد بيكر، كبير موظفى البيت الأبيض، وجيم مك كلور، السيناتور الجمهورى. وأنهما كانا مهتمين للغاية بموضوع روس بيرو. لكنه قال لهما: إنه لن يعود مقلقًا أبدًا بعد ثلاثة شهور، لأنه سوف يتم تحجيمه، وسيراه الأمريكيون شخصًا غريب الأطوار. ولأن كليهما لم يتفقا معه فى ذلك، أقر «بوش»، فى الهامش، هامش الصفحة، بأنهما كانا على صواب، وأن «بيرو» كان سبب خسارته فى الانتخابات. ولعل هذا الإنجاز يكفى وزيادة لأن ندعو بالرحمة لذلك الرجل الذى رحل، الثلاثاء، بعد أيام من احتفاله بعيد ميلاده التاسع والثمانين.