رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كرة النار


لا يزال العقل المسلم عاجزًا عن فهم القيمة الإنسانية للإسلام، ولا يزال يظن أن الإسلام بتصورات الشيوخ الضيقة يجب أن يحكم كل سكناتنا وحركاتنا، وأننا يجب أن نسير على «الكتالوج» الذى وضعوه هم ونسبوه إلى الله سبحانه، وقالوا إن هذا هو «كتالوج» الخالق ويجب أن نسير عليه ولا نبتكر لأنفسنا، وكانت الآفة الكبرى تلك الحركات التى نسبت نفسها للإسلام والإسلام لا يعرفها، ثم تلك الأحزاب التى قالوا إنها الجناح السياسى لجمعياتهم الدينية، ثم زعموا فى ذات الوقت أنها ليست أحزابًا دينية ولكنها مدنية.

لذلك فإنه من الأمور التى يجب حسمها فى هذه الفترة موقف الدولة المصرية بمشروعها المدنى الحديث من تلك الأحزاب ومنها حزب النور وغيره من الأحزاب التى ظنت أنها ستخدع الناس بعناوين براقة خادعة لا أصل لها ولا معنى، مثل أنهم حزب مدنى بمرجعية دينية!! والحقيقة أن الاثنين واحد، وإلا فليقل لى أحدهم ما الفارق بين حزب دينى وحزب له مرجعية دينية، إلا إذا كان سيقول بيت الشعر الشهير: الأرضُ أرضٌ والسماء سماءُ! وفى حوار لأحد «الدينيين الجدد» من قيادات حزب النور فى جريدة يومية إذا به يقول باستغراب والدهشة تأخذ بتلابيبه: «الجميع يجب أن يعلم أن حزب النور ليس حزبًا دينيًا ولكنه فقط حزب له مرجعية وخلفية دينية».

وإذا كان الحزب السياسى يعرف بأنه «تنظيم يضم مجموعة من الأفراد تجمعهم رؤى سياسية واقتصادية ومصالح مشتركة ـ وليست دينية أو مذهبية ـ ويهدف إلى الوصول إلى السلطة من أجل تحقيق الصالح العام»، فالذى يجعل هذا الحزب مدنيًا هو أن مرجعيته تتشكل من رؤى سياسية وأفكار اقتصادية يجتمع حولها أفراد من أديان وأعراق وألوان مختلفة، ومن ثم فهو لا يفرق بين المواطنين على أساس الدين أو العرق أو اللون، كما يعترف لهم بنفس الحقوق والواجبات والتطلعات، المسلم عندهم كالمسيحى فى كل الحقوق بما فيها كل درجات الولاية السفلى أو الوسطى أو العليا، والمسلم والمسيحى فى حقوقهما والتزاماتهما مثل أتباع باقى الأديان الأخرى، بل الكل سواء حتى ولو كان بعضنا لا يؤمن بأى دين.

أما الحزب الدينى فهو يرتد بالمجتمع قرونا إلى الوراء، إذ يقدم الانتماءات الدينية على الانتماءات للوطن، وهو فى ذلك يُضل ضلالًا كبيرًا لأنه يخلط بين الإيمان والانتماء، الإيمان بالدين والانتماء للوطن، فالفرد الحر يختار دينه لأنه يؤمن به ويعتقد أن دينه هو الصواب نفسه، ولكن الفرد الحر لا يختار وطنه، فسواء كان وطنه هو أعلى الأوطان قدرًا فى العالم أو أقلها شأنًا إلا أنه ينتمى له، وهذا الانتماء يجعل من يشترك معه فى الوطن يتماثل معه فى كافة الحقوق والواجبات، ولذلك فإن علاقة الانتماء بالوطن تختلف حتمًا عن علاقة الإيمان بالدين، وبسبب الخلط بين الانتماء والدين استخرج الفقهاء الأوائل ما يسمى «الولاء والبراء» وهو يجعل علاقة المسلم بدينه هى علاقة انتماء وإيمان فى آن واحد، لذلك أصبح خطاب جماعات الإسلام السياسى يجعل العلاقة بين مسلم الهند ومسلم مصر هى أقوى وأبقى وأنقى وأفضل من علاقة مسلم مصر بمسيحى مصر الذى يجاوره فى السكن ويشترك معه فى تاريخ مشترك، ولذلك أيضا قال مرشد الإخوان السابق مهدى عاكف إنه يقبل أن يحكم مصر مواطن ماليزى، ولذلك أيضًا أصبحنا نعرف جميعا أن الإخوان يعتبرون الوطن حفنة تراب عفنة.

من هذا المنطلق يمكننا تعريف الحزب الدينى بأنه «تنظيم يضم مجموعة من الأفراد تجمعهم رؤية دينية مذهبية واحدة، وتتولى قيادته مجموعة من فقهاء الدين، ويهدف إلى الوصول إلى السلطة من أجل تطبيق أحكام المرجعية الدينية للحزب بقوة القانون باعتبارها الطريقة المثلى لتحقيق الصالح العام».

الآن يجب أن يعلم الجميع أن التطابق بين أمة الدين وأمة السياسة لم يعد ممكنًا، وإذا كان من المقدر أن تنهض ثلة من العلماء من غفوتها لتضع لنا تصورًا مختلفًا عن الإسلام غير التصور المعتمد من القرن الأول بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والذى لا يزال قائما حتى الآن، أقول لو وضع الجُدد فهمًا مختلفًا للدين لكان من عناصره الفصل التام بين الدين والسياسة ونظم الحكم، الدين نتعبد به لله رب العالمين، وفقا لرؤى كل واحد دون أن يحاول إلزام الآخرين بفهمه هو، أما السياسة فهى كل ما يتعلق بشئون الحكم والعلاقات بين الناس.

وقد ضم حزب النور أعضاء رفضوا الوقوف عند السلام الجمهورى فى البرلمان وفى الاحتفالات العامة، لأن هذا الوقوف يمثل عندهم جاهلية، وهم أيضا يرفضون تحية العلم ويعتبرونها عملًا شركيًا، وكل أفكار شيوخهم ومرجعياتهم هى قمة فى التطرف، فياسر برهامى الذى يعتبرونه مرجعيتهم الكبرى يُحرِّم تهنئة الأقباط بأعيادهم، ويرفض أن يلقى عليهم المسلم السلام، ونفس الأمر بل وأكثر تطرفا فى أفكار مرجعيتهم الأخرى أبوإسحاق الحوينى الذى يعتبرونه «أعلم أهل الأرض»!، فهو يحرم كل شىء تستطيع أن تتصوره أو تعجز عن تصوره، ويبيح الأشياء الشاذة التى تأباها النفس السوية، مثل كلامهم السخيف السمج عن «إرضاع الكبير» ومع هذين الشيخين المتطرفين يأتى أحد شيوخ ومرجعيات حزب النور وهو المدعو «محمد حسين يعقوب»، وهؤلاء الثلاثة يشكلون المرجعية الدينية لهذا الحزب الذى لا يزال يمارس أنشطته وله عدد من الأعضاء فى البرلمان يمثلونه دون أن يفكر أحد فى حظره، ولكِ الله يا مصر.

وأظن أن أكبر معاناة عانينا منها منذ أن ظهر علينا حسن البنا فى الثلث الأول من القرن العشرين كانت من هؤلاء الإخوان الذين حوَّلوا مصر إلى ساحة قتال من أجل فهم افتراضى للإسلام، اعتبروه الفهم الأمثل وهو فى حقيقة الأمر قمة فى الانحراف العقائدى والإنسانى، ومن تحت معطف جماعة الإخوان المنحرفة خرجت كثير من الأحزاب الدينية فى سنواتنا القريبة، وتأتى الكارثة الأخرى متمثلة فى حزب «البناء والتنمية» وهو الحزب السياسى للجماعة الإسلامية، إذ بعد الخامس والعشرين من يناير أعلنت الجماعة الإسلامية وهى الحركة المتشددة الإرهابية التى ارتكبت العديد من جرائم الإرهاب ضد الشعب المصرى، أعلنت تأسيس حزب ناطق بأفكارها هو حزب البناء والتنمية.

وقد تشكل هذا الحزب من عتاة المجرمين الذين عاثوا فى الأرض الفساد، وأعلن الحزب فى وثيقة التأسيس صراحة بلا مواربة أنه حزب دينى، يستهدف الحفاظ على الإسلام فى مصر وكأن الإسلام مُعرَّض للضياع وسيكونون هم حفاظه! وقد أكد رئيس الحزب على توجهه الإرهابى إذ صرَّح بعد الاستفتاء على دستور الإخوان بأن حزبه سيواجه بكل حزم من يرفضون الشريعة الإسلامية! ثم بعد ثورة يونيو ارتكب أعضاء هذا الحزب العديد من الجرائم الإرهابية وشاركوا فى اعتصام رابعة المسلح، ويكفى أن هذا الحزب ضم فى عضويته كل رموز الإرهاب فى مصر من الذين أفسدوا وانحرفوا وقتلوا وسفكوا الدماء. وكان أغرب منظر وأسوأ مشهد رأيناه هو جلوس قتلة الرئيس الشهيد أنور السادات فى مدرجات الاستاد وقت الاحتفال بانتصار أكتوبر عام ٢٠١٢، يحيطون بمحمد مرسى من كل جانب وكأنهم يخرجون للجميع ألسنتهم ويقولون بلسان الحال: «قتلناه ونحتفل فى المقصورة الرئيسية بذكرى قتله» أو كأنهم يقولون «ها نحن قد حكمنا البلاد يا سادات» ولا يزال هذا الحزب سائرًا فى غيه يمارس أنشطته خاصة فى جنوب مصر، وإن كانت المحكمة الإدارية العليا ستحكم فى مدى قانونية هذا الحزب فى أول أغسطس القادم، وأرجو من الله أن ينير بصيرة قضاة الإدارية العليا فيضعوا حكما فريدا يتضمن فصل القول فى هذا الأمر، وينتصرون فيه لمبادئ الدولة المدنية والقواعد التى قررها دستورنا فى شأن عدم جواز إنشاء أحزاب دينية.

ويأتى مع تلك الأحزاب حزب «الأصالة» الذى اندمج معه «حزب النهضة» لصاحبه الإرهابى الهارب ممدوح إسماعيل، وهذا الحزب من أعجب الأحزاب الدينية القائمة، فمرجعيته متمثلة فى واحد من أكبر الإرهابيين فى مصر هو «محمد عبد المقصود» والذى ارتكب جرائم تحريض على القتل وسفك الدماء والتخريب وصدر ضده حكم بالإعدام من محكمة الجنايات إلا أنه فر هاربا إلى تركيا، وهو لا يزال يظهر على الشاشات الإخوانية فى تركيا مهاجمًا مصر وجيشها، متوعدًا شعبها، ويضم هذا الحزب واحدًا من أصحاب الأفكار الإرهابية هو «عادل عبدالمقصود» شقيق الإرهابى «محمد عبدالمقصود» وقد كان عادل هو رئيس الحزب إلى وقت قريب، وكان الإرهابى ممدوح إسماعيل هو نائبه، وممدوح إسماعيل لمن لا يتذكر هو «الديك» الذى أذَّن فى البرلمان قبل وصول الإخوان للحكم، ليستن بذلك «عُرفا» دينيا إلا أن إسماعيل هذا بعد فض رابعة طار على «جناح» السرعة هاربا إلى تركيا، ويبدو أن الهروب أصبح «عُرفا لهم» ولا يزال هذا الحزب قائما إلى الآن، ولكِ الله يا مصر.