رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سمكرية.. سفراء وجواسيس


إلى لا شىء، أو بأى كلام فارغ، ستنتهى التحقيقات التى تجريها بريطانيا بشأن رسائل البريد الإلكترونى المسربة لسفيرها لدى واشنطن. وإلى أن يظهر ذلك الـ«لا شىء» أو هذا الكلام الفارغ، فإنك تكون مخطئًا لو اختزلت القصة فى مجرد تطاول السفير على الرئيس الأمريكى أو انتقاده لإدارته.

السير كيم داروك، Sir Kim Darroch، السفير البريطانى لدى واشنطن، ذكر أن البيت الأبيض يعانى من «خلل جسيم» و«انقسام حاد» تحت قيادة دونالد ترامب. وطبقًا للرسائل التى نشرتها جريدة «ديلى ميل» البريطانية، فقد وصف «داروك» الرئيس الأمريكى بأنه عديم الكفاءة والأهلية، وتوقع «نهاية مخزية» لفترته الرئاسية. كما وصف السياسة الأمريكية تجاه إيران بأنها «غير متسقة وفوضوية»، وأرجعها إلى صراعات داخلية، قال إنها تشبه «القتال بالسكاكين». ونصح حكومته بأنها إذا أرادت أن تتواصل مع ترامب بشكل أفضل فإن عليها أن تعتمد على الرسائل البسيطة، والمباشرة إلى حد الفجاجة. لكنه حذّرها من أن تعزيز العلاقات التجارية بين البلدين بعد «بريكست» سيؤدى إلى تفجير خلافات حول العديد من القضايا مثل التغير المناخى وحرية الإعلام وتطبيق عقوبة الإعدام.

جيريمى هانت، وزير الخارجية، زعم أن ما حملته رسائل داروك ليست أكثر من تقييمات «لا تعكس موقف الحكومة البريطانية، بل تعبر عن رأيه الشخصى». وقال: «ما زلنا نعتقد أن الإدارة الأمريكية تحت قيادة الرئيس ترامب تعمل بفاعلية، بل هى الصديق الأقرب لبريطانيا على الساحة العالمية». أما نايجل فاراج، زعيم حزب «بريكست» البريطانى، فوصف ما فعله «داروك» بأنه لا يتناسب تمامًا مع طبيعة عمله، ورأى أن الأفضل هو أن يغادر منصبه بأسرع وقت ممكن. وهنا، تكون الإشارة مهمة، إلى أن ترامب كتب تغريدة، فى نوفمبر ٢٠١٦، اقترح فيها على الحكومة البريطانية تعيين صديقه نايجل فاراج سفيرًا للمملكة فى واشنطن. ووقتها تزعمت «بى بى سى» و«الجارديان» حملة هجوم ضد «تدخل ترامب» فى الشأن البريطانى. ثم أعلنت الحكومة عن ثقتها فى السير كيم داروك. الذى كان مستشار الأمن القومى.

ليست هذه هى التسريبات الأولى، التى تخص «داروك»، ففى ١٠ أبريل ٢٠١٧، نشرت جريدة الـ«إندبندنت» البريطانية تقريرًا، ذكرت فيه أنها اطلعت على رسائل تلقتها منه رئيسة الوزراء، تيريزا ماى، توضح أن إيفانكا ترامب، لعبت دورًا مهمًا فى إقناع والدها بتوجيه ضربة عسكرية إلى سوريا. ونقل التقرير عن رسائل «داروك» أن «إيفانكا» لها «تأثير كبير داخل المكتب البيضاوى» وعلى اتخاذ ترامب لقراراته «حتى لو كانت مصيرية». وما أكد ذلك، أو رجح صحته، هو أن «إيفانكا» كتبت تغريدة فى حسابها على «تويتر»، بعد توجيه الضربة الصاروخية التى استهدفت مطار الشعيرات العسكرى، أعربت فيها عن فخرها بقرار والدها.

الملفات أو الرسائل المسربة، حديثًا، تم إرسالها منذ ٢٠١٧ وحتى أيام مضت. وأكد صحتها مسئول بريطانى لشبكة «سى إن إن» الأمريكية، ومما تم نشره منها يمكنك استنتاج أن السفير البريطانى يرصد التقارير الإعلامية ويتحقق من محتواها ويقوم بتقييمها ويستكمل ما قد ينقصها من معلومات. وطبعًا، لا يمكن مقارنتها بما حملته الوثائق الدبلوماسية الأمريكية التى نشرها موقع «ويكيليكس»، وكانت حصيلة مراسلات السفارات حول العالم أو حصاد سنوات من تجسّس الدبلوماسيين الأمريكيين على الدول التى يعملون فيها.

تتذكر طبعًا كيف تحوّل تسميم الجاسوس الروسى السابق، سيرجى سكريبال، وابنته يوليا، فى مارس ٢٠١٨، إلى أزمة دبلوماسية بين بريطانيا وروسيا قبل أن تلقى بظلالها على مجمل العلاقات الغربية الروسية، وتسبب فى قيام لندن وحكومات أكثر من ٢٠ دولة غربية حليفة فى أوروبا وأمريكا وأستراليا بطرد أكثر من ١٥٠ دبلوماسيًا روسيًا، بزعم أنهم جواسيس تحت غطاء دبلوماسى. كما تم إغلاق قنصليات ومراكز إعلامية تابعة لموسكو. وهو ما ردت عليه موسكو بالمثل وطردت أعدادًا مماثلة من الدبلوماسيين الغربيين، وأغلقت قنصليات، وأنذرت باتخاذ مزيد من الإجراءات. ووقتها نقلت شبكة «سى إن إن»، عن مسئولين فى الإدارة الأمريكية، أن سيرجى كيسلياك، السفير الروسى، أحد كبار جواسيس روسيا فى واشنطن.

عن طريق «سمكرى خياط جندى جاسوس»، Tinker Tailor Soldier Spy، شرحت رواية شهيرة للبريطانى «جون لوكاريه» حملت هذا العنوان، كيف تمكّن السوفيت من اختراق الهرم الأعلى فى المخابرات البريطانية. والرواية صدرت سنة ١٩٧٤، وشاهدناها فيلمًا بتوقيع المخرج توماس الفريدسون، فى ٢٠١١. وعليه، لن يكون مفاجئًا، أو صادمًا، لو ظهر ما يؤكد أن سفيرًا بريطانيًا، سواء كان «داروك» أو غيره، تعاون مع مخابرات بلاده، بعد أن ثبت أن هناك سفراء كثيرين عملوا جواسيس أو أشرفوا على شبكات تجسس ونقل أسلحة وتكوين ميليشيات إرهابية، أو أداروا شبكات سرية لغسل الأموال وتزوير العملات.