رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سوسيولوجيا الثورة.. وثورة يونيو


في ذكرى ثورة يونيو .. نطرح سؤالاً عفويًا ربما نعرف إجابته سلفًا :هل صحيح أن الثورات الشعبية يقوم بها المجاهدون المخلصون والأبطال الأنقياء المضحون، ويقطف ثمارها الانتهازيون والوصوليون والمنافقون؟ نعم .. فقد اتفق علماء الاجتماع والخبراء بما يسمَّى ( سوسيولوجيا الثورة /علم اجتماع الثورة ) على أنه يتم بالفعل سرقة الثورات من المتربصين بالحراك الجمعي المتأجج؛ وانشغال الثوار بفرحة التخلص من " الديكتاتور" أو " السلطة الحاكمة الظالمة" في نظرهم؛ والخروج من المخابيء والتنظيمات التحتية السريَّة لتصدُّرالمشهد في اللحظات الأولى لاتضاح الرؤية والموقف؛ ليُنسب إليهم كل الفضل في النجاح والقفز للسيطرة على مقاليد الأمور .

ولكنني ـ ربما عكس كل المنظرين ـ أرى كل الخير في "سرقة " ثورة يونيو من كتلة الغوغاء والخوارج والمغيبين عن حقيقة وواقع الشعب المصري؛ لأنهم أتاحوا لنا ـ بغبائهم ـ فرصة الكشف عن وجوههم البشعة القبيحة؛ وغاياتهم ومخططاتهم غير المبشرة بالتقدم إلى المجتمع الثوري الحقيقي الذي يتمناه كل مخلص للوطن ومستقبله !

وقد يتساءل البعض : كيف سُرقت ثورة يونيو 2013 ؟ وهي التي نعيش الآن في ظلال مكتسباتها ونجني ثمارجهود قائدها وقائد جيشها؛ الذي قوَّض بكل الحنكة والوعي أركان بنيان أحلام الطامعين في القفزعليها وسلب نتائجها ؟

أقول : إن الثورات الشعبية الكبرى؛ ليست ابنة يومٍ وليلة، فقد سبق ولادتها آلام ودماء المخاض الهائل في الشوارع والميادين في الهزيع الأخيرمن يناير 2011، حين خرجت الجموع بكل التلقائية والعفوية النبيلة؛ للتعبيرعن استيائها من الفساد والاستبداد والقمع الذي استشرى في جنبات المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية المشتهاة؛ ولم تكن انتفاضتهم لاستبدال جماعة حاكمة بجماعةٍ اخرى إرهابية تسرق الثورة وتقتل الثوار في وضح النهار؛ بمؤامرة كاملة الأركان مع ذيول الاستعمار القديم وأحفاد معاهدة "سايكس ـ بيكو" الشهيرة في تاريخ مصر والعرب ومنطقة الشرق الأوسط بكاملها؛ بغرض تحويل أحلام الشعب المصري إلى كوابيس رهيبة تفجِّر ـ برصاص الغدر والخديعة ـ دماء الشباب الثائرالطاهرعلى أسفلت الشوارع والميادين، فكان الرد العملي .. هو استرداد الثورة في "يونيو 2013" التي بدأت أرهاصات مخاضها في "يناير 2011"، وتخلصت مصر من بشاعة 367 ليلة سوداء في تاريخها القديم والحديث، لتنتصر الثورة وتستمر بثوارها الحقيقيين؛ لتنطلق لتحقيق العديد من المشروعات القومية العملاقة في شتى المجالات العلمية والبيئية، وخلق الملايين من فرص العمل للشباب الذين حملوا على عاتقهم حماية مكتسباتها في الداخل؛ ودورهم الفدائي على حدود الوطن لمواجهة بقايا فلول عصابات الغدر والخيانة؛ التي تحاول إجهاض مسيرتنا التقدمية الواعدة .

واسمحوا لي أن أتوقف ـ هُنا ـ بجملة اعتراضية قصيرة؛ للرد على من يدَّعي : إن انتفاضة الخامس والعشرين من يناير؛ كان مؤامرة وطُعمًا سائغًا ابتلعه الشعب المصري .. لينتفض من سُبات ثلاثين عامًا جدباء قاحلة ! فإنني أقول لهؤلاء: حتى ( لو ) كانت مؤامرة ـ كما تدَّعون ـ فإنها كانت فرصة رائعة من أجل "خلخلة الوتد" كما يقول المثل الشعبي العبقري؛ والانطلاق الكاسح لتحقيق مالم تحققه عشرات السنوات العجاف قبل الانطلاق إلى الشوارع والميادين؛ وفرض الإرادة الشعبية والأمل في العيش والحرية والكرامة الإنسانية .

ونجدها فرصة مناسبة لنناقش سويًا "مفهوم الثورة" من منظورعلمي ورؤية ورأي أصحاب الأيديولوجيات المختلفة بحسب تربيتهم السياسية والاجتماعية .. والدينية !، ومدى تأثير المناخ العام والتركيبة المجتمعية على نجاح أو فشل محاولات إحداث تغييرات فجائية وجذرية؛ للوصول إلى تغيير النظام الحاكم وممارساته التي لاتتمتع بالرضا الكامل ممَّن يطمحون إلى إحداث تلك التغييرات السياسية، فلكل فصيل رؤيته وأساليبه في اختيار الوسيلة التي يستخدمها : سواء كانت سلمية هادئة بالحوار والنقاش عن طريق الأحزاب والمؤتمرات الجماهيرية؛ أو باستخدام العنف والصدام والمواجهة بالمظاهرات الدموية مع السلطات؛ أو باستخدام الوسيلتين معًا إذا لزم الأمر!

ولكننا دائمًا نجنح ونصبو إلى استخدام "مفهوم الثورة البيضاء"؛ التي تنشد التغييرات الجذرية العميقة في مجالات بعيدة عن ساحة المعارك السياسية الطاحنة؛ تلك المعارك التي يصفونها بصراع وتناطح الأفيال والديناصورات على كراسي السلطة والنفوذ في الأعلى؛ ولا يعنيهم أن ينسحق الشعب تحت أقدامهم في الأسفل ! وتلك الثورة البيضاء هي الثورة العلمية والثقافية والتعليمية؛ المنبثقة من استراتيجية مدروسة ومخططة بمعرفة العلماء والباحثين والدارسين في مجال علم الاجتماع؛ لفرض التغييرات اللازمة في البنية التحتية والفوقية لمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، فتلك التغييرات هي التي تستطيع أن تمهد الطريق القويم والمستقيم إلى إيجاد التوافق المجتمعي بكل الرضا؛ ليستمر سريان وتدفق تيار السلام والأمن والأمان في نهر المجتمع وتحقيق الرخاء والازدهارعلى ضفتيه . وحين تتحقق هذه المفاهيم لمعطيات الثورة البيضاء المنشودة، لن نكون بحاجة إلى البحث عن "مؤامرة" تكون تكِئة لانتفاضة أخرى لا نعلم متى تبدأ ومتى تنتهي .

لقد دفعنا ثمنًا غاليًا للوصول إلى تلك اللحظات الفارقة في تاريخنا المعاصر، وعلينا أن نعُضْ عليها بالنواجذ؛ من أجل تحقيق "مجتمع الثورة" الحقيقي بكل أشكاله وأنماطه الإيجابية العظيمة، كي لانلجأ مرة أخرى إلى "ثورة المجتمع" !

وكل عام ومصر وثوارها الأحرار وشعبها الأبي وقيادتها الوطنية في خيرٍ وأمنٍ وسلام ،وتحيا مصر دائما وأبدا.