رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دولفين صغير يُحلِّق بذراعين

جريدة الدستور



لا شىء يُنهى كآبة ليلتك الماضية.
تلحق بك فى الحمام، وقد وضعتَ جسمك تحت سطوة ماء بارد، تناولتَ أقراصًا مهدئة تكفى وصولك مرحلة اللاوعى، بينما الصداع أقوى من أن تترجل عن محطة رأسك ضجة القطارات. تحملق فى المرآة.. تمشط شعيراتك البيضاء المتناثرة على الجانبين، تسعل بحشرجة وبصاق أزرق قاتم يعاند النزول من مصفى الحوض. تطرق بعينيك للأرض.. تمسح على ظهرك، تفرك جبهتك بيدها.. تصد، تدير وجهك إليها.. تطرح سؤالها البائس:
- أفرطتَ فى الشرب أمس؟
لا تقوى على رفع عينيك، تمسك يدك فى حنو، فتسلت يدك بلا رغبة من يدها، وتنفلت من دفء ضلوعها. ترتبك أكثر، ولا تجد فى غير الشارع المهرب. أخرجتَ نفسك من البيت وأركانه وزوايا ماضيه وحاضره، ومن الهاتف الذى يرن رنة إلحاح المدير فى طلبك، وقد تأخرت ساعتين عن حضور لجنة جرد خزينة المؤسسة من قبل جهة رقابية.
هى شرحتَ لك ألف مرة أن قطتك المدللة، سهراتك من ليلة لأخرى، انفصالك أغلب الأوقات عن العالم من حولك: أشياء بغيضة تنافسها عليك، تقاسمها فيك. هى ارتضت بأن تزور والدتك من حين لآخر «أختك تقوم على خدمتها، ويمكن أن تزورها مرة فى الأسبوع»، لكنك اصطنعتَ حيلة لتهرب منها وقتًا متقطعًا متكررًا.
كان الطريق أمامك يمتد بلا انقطاع، السيارات تصفر كآخر صفير من حياتها الحديدية. تلفت انتباهك لافتة الحانة المغلقة أبوابها عليك أمس.. كانت ليلة أشبه بمعركة طاحنة مع الوجود.
تسترجع بذهن شارد ما مرّ فى الساعتين اللتين قضيتهما. كان أحدهم يصر على سحب الفتاة التى انفردت بمقعدها قرب البار، إلى مجموعته التى تشغل حيزًا متأزمًا مع فكرة تقبل فوضى أفرادها. كان مقبولًا أن تسكت، تشيح بوجهك إلى انعكاسه المشوّش فى الزجاجات المتراصة أمامك، وأن تلهى نفسك بمداعبة حواف كأسك الفارغة للتو بأصابعك.. لكن من المروع والمؤلم أن تحافظ على برودك أكثر من ذلك!

كانت الفتاة محطمة كلوح زجاجى وهى تحكى كيف أنها هربت من قفص أسرتها الحديدى وانصرفت إلى «اعتناق الحياة»:
- أليس من حقى أن أعيش كما أحب؟!
أحسستَ أنك تلك الشظايا الزجاجية المبعثرة، وأنك تتقاسم-أخيرًا- مع أحد ما على سطح هذا الكوكب مأساتك الفريدة.
يشدك حبل مجهول إليها.. تبتسم فى جرأة، تمد سلامًا خفيفًا يحمله بخار قهوتك، تتفرسها وإشارات متنوعة للقبول بكافة عروضك. فى وقت قصير تبادلتما أشياء لم تكن إلا حماقات ترتكبها فى لحظة ضعف. أنت رجل طلّق مرتين.. مرتين! لا تغالط.. ولك بعض علاقات وطيدة مع مغاوير السياسة، ونجارى الأدب. وهى فتاة عشرينية شعرها مرسل كخطوط السكك الحديد، وأهدابها مرخاة كحبال الأشرعة.
هل رأيتنى كيف حطمت أنفه؟
أبدتْ امتنانها بابتسامة قوية العذوبة، لكن قبلتها الخاطفة كانت بطعم صبيّة أنقذها أحدهم من معركة خرجت منها بتمزيق خفيف لقماش تنورتها الزاهى. وتصرفت - من جانبك- كرجل فهمها بهذه الطريقة الساذجة.
فى الساعات الأولى للصباح عدتَ منهكًا، لا يخبو فى ذاكرتك وهج الأمسية التى انتهت إلى مشهد تلك الفتاة الحالمة بالحرية والانطلاق والمرح، وهى فى قبضة رجل يكبرك بسنوات يصرخ فيك فيما تحاول اقتناصها منه: «أنا أبوها، وأربيها بمعرفتى، لا شأنك لك بها!».
انسحبتَ بهدوء إلى خلفية الصراعات التى تدور فى رأسك، وسألتَ نفسك كيف تخرج من مطب الانهزامات التى لحقت بك، فأجبرَتك إلى إعادة هيكلة صفوفك فى محاولة للإبقاء عليك حيًّا، أو نسفَ كلّ شىء.

انتبهتَ إلى أحدهم وهو يمسك بملابسك من الخلف ويجذبك بقوة. كان حديد سور الكوبرى الذى استندت إليه. ورجل فى الجوار أعطاك زجاجة مياه باردة أطفأت جوفك من حرارة الشمس. تفحصتَه بنظرة غامضة لا تعرف هل تشكره أم تسبّه.. وتناولك بنظرة أكثر رأفة؛ لأنه ربما كان يتوجب عليك ترك رسالة ما فى ورقة معلقة بمكان بارز حتى لا يقاطع أحد سموّك الروحانى فى التوحد مع الفناء.
«ما زلتَ شابًا يا ولدى. والعمر ما زال أمامك!».
لحظات وانفضّ الحشد من حولك، تركوك فى لحظة خاصة، لحظة لم تمر بحياتك من قبل. تبقّى فقط طفل تسمرت قدماه فى الرصيف. ربما ضلّ الطريق عن والديه أو أحدهما «طفل تشهد ذاكرته على حادث وفاة والده فى سيارة، كانت أمه تُجلسه على قدميها، وانهارت لسنوات طويلة بعدها لمنظر الدماء التى خرجت من صدر أبيه وسيخ حديدى قد اخترقه فى طعنة غادرة»، تعلو شفتيه ابتسامة فيها حزن مطلق، نقاء أزلى من البؤس، تتوحد معه دمية على شكل سمكة يمسك بطرف خيطها بين أصابعه. دولفين على الأرجح، عيناه الزجاجيتان تبرقان برغبة جامحة مجنونة.
تقدمتَ فى اندفاع إلى الطفل، اللعبة تذكرك بشىء ما يجرك إليه، ما إن مددتَ يدك لأخذها، حتى تراجع الطفل للخلف مفزوعًا.. وفى لحظة تحرر الخيط من بين أصابعه.
وقفتَ على قدميك قبل أن تقارب الدمية- الدولفين التحليق بعيدًا، قفزتَ قفزة كلب يلحق بطوق يلقيه صاحبه فى الهواء وعليه إحضاره.. قفزتَ بملء معاناتك، لكن اتزانك لم يكن مناسبًا للحركة البهلوانية.
فيما صعد شاب حافة السور والتقط خيط الدمية بمهارة يحسد عليها، وأعطاها للطفل الذى كان يرسل نظراته المفعمة بحزن مروع، إلى رجل يتهاوى كما دولفين يحلق بذراعين، وتنزلق قدماه بعفوية إلى النهر.