رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوم إزاحة المستثمرين فى بيع الأوطان والأسلحة والنساء



فى يوم ما من تاريخ الزمان، اكتشفنا من جديد فصيلة الدم الذى يسرى فى عروقنا، وتعرفنا من جديد على ملامحنا الأصيلة التى تشوّهت عن عمد متنمر، نظرنا إلى الشمس، فأعلنت أنها فى إجازة، لأنها ستشرق اليوم فى عيون المصريات، والمصريين، وعلى شفاههم.
فى يوم ما من الزمان، توقف كوكب الأرض عن الدوران، فقد اكتفى بدوران الملايين من المصريات والمصريين حول بعضهم بعضًا، وقد أزاحوا «جاذبية الأرض» لإحلال «جاذبية الشعب» بدلًا منها، يوم كان المفروض حسب المعلومات الفلكية والأرصاد الجوية أن يكون شديد الحرارة والرطوبة، لكن بقدرة وإرادة ورغبة وحماس الملايين من المصريات والمصريين، أصبح يومًا نديًا لطيفًا معطرًا، يجعل الخروج إلى الشارع نزهة مبهجة للكبار والصغار.
يومًا ما، تحولت فيه مصطلحات «الحرية» «التحرير» «الثورة» إلى صناعة مصرية وطنية خالصة، عالية الجودة، لا تقبل المنافسة، تستعصى على التقليد، يحسدها العالم. فى يوم ما من الزمان، فتح التاريخ أبوابه الذهبية للشعب المصرى لكى يقول حكمه النهائى اليقظ النافذ، لا رجعة فيه ولا نقض ولا استئناف، ضد سماسرة الأوطان وتجار الدين، ولصوص الحرية والمستثمرين فى بيع الأسلحة وبيع النساء.
فى يوم ما، أجهض الشعب المصرى مؤامرات تقسيم الوطن إلى ولايات دينية، وإمارات مذهبية تحرق علم مصر، وترفع الأعلام السوداء المستوردة من أزمنة الصحراء.
فى يوم ما، أوقف الشعب المصرى «المزاد» الذى كان منصوبًا لبيع مصر بالجملة، وبالقطاعى، ذلك اليوم من أيام الزمان كان اسمه «٣٠ يونيو ٢٠١٣».
ثورة عارمة غامرة، أود أن أسميها «الساحرة» التى حولت التراب إلى ذهب، والأجساد المحتشدة إلى «محميات» صامدة، والعيون إلى شرارات من لهب، «ساحرة» أخرجت من جعبة المصريات والمصريين تمردًا مختزنًا من آلاف السنين، ومقاومة كانت مخبأة تحت طبقات صدئة من الخوف والاستسلام.
«ساحرة» استطاعت أن تحمل الملايين على ظهرها؛ لتذهب بهم إلى أرض، لا يغيب عنها حلم الحرية، «ساحرة» غسلتنا بزيت الياسمين، وماء الورد، من الطبيعى جدًا أن يصفها المتضررون من سِحرها بـ«الانقلاب».
وليكن الأمر، نعم انقلاب، لكنه أكبر انقلاب «شعبى» منذ فجر التاريخ، نعم انقلاب، انقلاب على العبودية والمذلة والتبعية، نعم انقلاب، انقلاب على السرقة والفساد والنهب. ما أجمله من انقلاب، يقلب الأشياء، لكى «تتعدل» و«تستقيم».
٣٠ يونيو ٢٠١٣، لم تكن ثورة فقط على الاستبداد الملتحف بالدين، لكنها كانت ثورة لحماية الوجود نفسه. وثورة لحماية آلاف السنوات من الحضارة المصرية القديمة، التى كانت «أقدم» و«أعرق» و«أعدل» الحضارات، وثورة ضد انطفاء مصابيح الاستنارة. وثورة لاستعادة وطن مكون من ثلاثة حروف.. مصر.
نزلت الملايين إلى الشوارع فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، دون استئذان أو تحريض من نخبة سياسية أو نخبة ثقافية أو نخبة دينية، بل إن الثورة قامت لتضع حدًا لهذه النخب الخربة والانتهازية، التى تأكل على كل الموائد وتصفق لكل نظام وتغازل التأسلم السياسى، وتعمل «حائط صد» «يغلوش» على موجات الفكر الثقافى النزيه المبدع، المتمرد.
نزلت الملايين فى الشوارع، بـ«عفوية الأطفال» و«عنفوان» الشلالات و«صمود الجبال.. احتشدت الملايين؛ لتكمل الثورة «البكرية» المولودة فى ٢٥ يناير ٢٠١١، ولكى تعلن لكل منْ يهمه الأمر أن «النهر» الثورى سيظل متدفقًا، فى شرايين المصريات، والمصريين.. علمتنا ثورة ٣٠ يونيو أن مصر لا «تتكيف» مع الأوضاع والحسابات والمصالح، ولكن على الأوضاع والحسابات والمصالح حتى تستمر، أن «تتكيف» هى مع «الجينات» المصرية.
هناك تيارات سياسية معروفة التوجه والتمويل، تنفق على قنوات إعلامية لا حصر لها متخصصة فى ترويج الشائعات ضد مصر، والجهر بالفرح والشماتة، حينما نتعرض لأى مشكلة أو أزمة.. وهناك القنوات الإعلامية الدينية الزاعقة، التى تملأ الفضائيات، والتى تخصصت فى تمهيد الأرض للدولة الدينية مكتملة الأجزاء واستعادة الخلافة الاسلامية، ودعم المتأسلمين المأجورين الذين يخلقون الفتن، ويفرقعون الإثارة، ويرهبون التيار المدنى برفع قضايا ازدراء الأديان.
هذا الصراع المشتعل، بين أنصار الدولة المدنية وأنصار الدولة الدينية، أراه شيئًا إيجابيًا لصالح مصر. فالصراعات تفضح ما كان مستترًا، وتكشف حقيقة الأصدقاء والأعداء.. الصراعات تغربل وتنقى وتطهر.. ومصر سوف تنتصر، والسبب بسيط جدًا... أن مصر إلى جانب الحياة، والحياة مهما انتكست، ومهما تراجعت، لا بد أن ترجع أقوى مما كانت.. لا أحد، أيًا كان جبروته، يستطيع أن يهزم قوة الحياة وقانونها الأزلى فى التقدم نحو مسيرة الضياء.
من بستان قصائدى
«زورونى كل سنة مرة.. حرام تنسونى بالمرة حرام»
لا أدرى كيف أبدع سيد درويش.. هذا اللحن
إنه بالضبط مقاس أشجانى.. كأننى أسمع موسيقى بكائى.