رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: السقوط الأخير للكاتب العجوز.. القصة الحقيقية لمنع فهمي هويدي من الكتابة في مصر

محمد الباز
محمد الباز

لما يقرب من عامين أراح فهمى هويدى نفسه واستراح منه الجميع، عندما غاب بمقاله الذى كان يكتبه يوميًا فى جريدة الشروق، لكن يبدو أن الكاتب الذى أدمن الكذب والمراوغة وادعاء البطولة لم يتب بشكل كامل، فبدأ يتسرب على استحياء.
على موقع « رأى اليوم» الذى يرأس تحريره الصحفى عبدالبارى عطوان بما يثيره دائمًا من علامات استفهام وريبة وتأرجحات فى المواقف طبقًا لتغير بوصلة المصالح- أطل فهمى هويدى من خلال حوار قصير أجراه معه محمود القيعى، محاولًا أن يمنحه قيمة ليست فيه، فهو يقدم لحواره على أنه أول حوار مع هويدى بعد منعه من الكتابة.
لم ألتفت كثيرًا لما قاله فهمى، فهو رجل غير مستقيم طوال الوقت، يخفى فى نفسه ما لا يبديه عبر سطور كتاباته التى وضعها فى خدمة من يتحالف معهم طوال حياته، لكنى توقفت فقط عند ما قاله عن مسألة توقفه عن الكتابة.
سأله محاوره عن الغياب الغامض- هكذا وصفه- فتبسم فهمى وأجاب بأريحية عرف بها: أولًا غامض بأى أمارة؟ كل الناس تعرف، ولكن الحاصل أنه لا أحد يتكلم.

وجه فهمى مدفعيته بعد ذلك إلى وجه الجميع بعد أن وصف العصر بأنه عصر الأقزام، قال: أنا ممنوع من الكتابة فى الداخل، ولا أحب أن تكون كتابتى فى الخارج، لأن أى كلام فى الخارج يجرى تأويله، أو يمكن تأويله وتصيده واستخدامه بغير مبرر للتنكيل والتشهير، ما يهمنى هو الناس، لم أكن فى كتاباتى أخاطب الحكومات، والحمد لله أن من يفتقدوننى هم الناس، أما الذين سعدوا برحيلى واستراحوا، فقد كنت أخاطبهم برفق.
لم يكتف فهمى بالحديث عن مشكلته الخاصة- سأقول لكم بعد قليل كيف هى خاصة- بل لم يفلت الفرصة التى جاءته بالحوار، فأهال التراب على كل شىء، قال: الحمد لله أننى خرجت قبل أن تعود الصحافة إلى زمن المكتوبجى.
وقبل أن يغادر منصة هجومه، قال: هذا بلد كما قال أحد الأصدقاء- الذى لم أستأذنه فى ذكر اسمه- يحفر تحت القاع، وعندما نصل إلى تلك المرحلة، فأنا أحمد ربى أننى سكت فى مرحلة لم أتخيل أننا يمكن أن نصل إليها يومًا ما.
هنا يمكننى أن أمسك بثلاثة خيوط فى حديث فهمى هويدى.
الخيط الأول هو الكذب التام، ففعليًا- ورغم أن هذه قضية مهنية داخلية قد لا تهم الناس لكن من المهم توثيقها- لم يتم منع فهمى هويدى من الكتابة فى جريدة الشروق التى يملكها الناشر الكبير إبراهيم المعلم.
أعرف أن هذه التفاصيل يمكن أن تكون مزعجة ومحرجة فى الوقت نفسه، لكن لوجه الحقيقة التى يبدو أن هويدى لا يعرفها جيدًا نقولها.
كان آخر مقال كتبه فهمى هويدى فى جريدة الشروق فى ٢٨ يونيو ٢٠١٧ بعنوان «أيجوز التعاطف مع غزة؟» وبعده فوجئ قراء الشروق ببيان منشور على موقع الشروق فى ٢ يوليو ٢٠١٧، يقول بدأ الكاتب الصحفى فهمى هويدى إجازته الصيفية بدءًا من السبت ١ يوليو، ويتوقف خلالها عن كتابة مقاله اليومى فى الصفحة الأخيرة والأسبوعى فى صفحة الرأى كل يوم ثلاثاء فى جريدة الشروق.
هنا ملاحظة مهمة، فلو أن فهمى هويدى سيتوقف عن الكتابة لإجازة يحصل عليها، لكان من المناسب نشر هذا البيان يوم ٢٩ أو ٣٠ أو ٣١ يونيو أو حتى يوم ١ يوليو، وهو اليوم نفسه، الذى قال البيان إن هويدى سيتوقف عن الكتابة فيه، لكن نشر البيان فى ٢ يوليو وبعد يوم من التاريخ المحدد للإجازة يقول إنه كان فى الكواليس ما فيها.
ما جرى أن فهمى هويدى طالب إدارة جريدة الشروق بمستحقاته المالية لديها، وهى مستحقات تراكمت بسبب الظروف المالية التى تمر بها الجريدة- وهى ظروف يعانى منها الجميع- ولما لم يجد هويدى ردًا، قرر أن يتوقف عن الكتابة فى محاولة منه للضغط على إدارة الجريدة، التى لم تتمكن وقتها من الوفاء بالتزاماتها، لكن الجريدة لم يكن أمامها شىء لتفعله.
توقف فهمى هويدى عن إرسال مقاله لما يقرب من أربعة أيام، وفى اليوم الخامس اضطرت الشروق إلى نشر البيان، ربما إبراءً لذمتها، ولأن المسئولين عن الجريدة قرروا الحفاظ على صورة هويدى حتى اللحظة الأخيرة، لم يتحدثوا عن مسألة امتناعه عن الكتابة بسبب مستحقاته المالية من قريب أو بعيد.
أدرك فهمى هويدى أن الجريدة لن تبكى عليه ولن تسترضيه، بعد ما يقرب من عشرة أيام أرسل المقال مرة أخرى، لكن الشروق كانت قد حسمت أمرها وقررت عدم النشر لهويدى، الذى لم يضع فى اعتباره وضعية الجريدة التى تعاملت معه برُقى حتى اللحظة الأخيرة.
الخيط الثانى هو ادعاء البطولة الكاذبة، حاول هويدى أن يصور الأمر على أن الناس يفتقدون كتاباته، لأنه يكتب لهم فى الأساس، ولو اطلع الكاتب الكبير على ما جرى؛ لوجد نفسه فى موقف محرج للغاية، فلم يسأل أحد من قراء الشروق عن مقالات كاتبهم، بل لم يطالب أحد لا سرًا ولا علنًا بأن يعود فهمى إلى الكتابة من جديد.
أحد أصدقاء فهمى هويدى قال لى: عاش فهمى بعد توقف الشروق عن نشر مقالاته حالة صعبة جدًا، شعر بأن عمره كله ضاع هباءً، كان يتخيل أن قراءه سيتوجهون إلى مقر جريدة الشروق فى الدقى بالآلاف فى مظاهرات حاشدة لإجبار الجريدة على نشر مقالاته، لكن مرت الأيام دون أن يحدث شىء على الإطلاق.
شعر فهمى بأن توقفه فى النهاية مجرد «توقف فطيس» لو صح التعبير، ولأنه مدمن بطولات زائفة، فقد صور الأمر لمن حوله على أنه ممنوع بأوامر من جهات عليا، رغم أن الجهات العليا فى الغالب عرفت أمر توقفه عن الكتابة من البيان المنشور فى موقع الشروق.
فى أيامه الأخيرة كان فهمى هويدى قد وصل إلى حافة الخرف، وفقد كثيرًا من أدواته، يريد أن يخوض معركة ضد الدولة وضد الجيش، لكنه لم يكن يمتلك معلومات، وعندما كانت تمسك إدارة تحرير الشروق أخطاءه، كان يصور الأمر على أن هناك منهجية واضحة للتضييق عليه ومنع مقالاته والحذف منها.
والغريب أنه كان يفعل ذلك فى مقالات تنشرها الشروق، بما يؤكد أن إدارة الجريدة لم يكن هناك ما تخفيه أو تخجل منه أو تخشاه.
اتهم فهمى عمادالدين حسين، رئيس تحرير الشروق، صراحة فى مقاله «يخربون الحاضر والمستقبل» بالحذف والتعديل على مقاله الذى نشره فى ٥ سبتمبر ٢٠١٦ وكان عنوانه « دور الجيش المصرى فى الاقتصاد»، وهو ما كذبه فيه عمادالدين حسين عندما كتب هو أيضًا أن مقال هويدى كان به بعض النقاط قد تعرض الجريدة للمساءلة القانونية وتحتاج إلى توضيح وتعديل لتتماشى مع السياسة التحريرية للجريدة، وقد تواصل مع الكاتب الكبير الذى تفهم الأمر تمامًا واتفقا على حسم الأمر.
عمادالدين حسين، الذى يعرف الجميع مهنيته وصدقه فيما يقوله، كشف فى مقاله الذى اختار له عنوان «الجيش والأستاذ فهمى هويدى وسياسة الشروق التحريرية» أنه بالفعل حذف فقرة مغلوطة من المقال، تقول إن القائد العام للقوات المسلحة أصدر قرارًا بإعفاء بعض مؤسسات القوات المسلحة من الضريبة العقارية.
تواصل عماد مع فهمى ودارت بينهما مناقشة طويلة، وكان الغرض منها تصحيح المعلومة الخاطئة التى وردت فى المقال، فلم يكن الخلاف على وجهة نظر، بل على معلومة ليست صحيحة، لكن هويدى أصر على وجهة نظره، وطلب من عماد عدم نشر المقال.
بعد ذلك تلقى عماد اتصالًا من الكاتب الصحفى جميل مطر، عضو مجلس التحرير فى جريدة الشروق والمشرف على قسم الرأى، ووجده يقول له إنه تواصل مع هويدى ويمكنه نشر المقال مع إجراء التعديلات اللازمة، وبعد أن نفذ عماد ما تم الاتفاق مع هويدى عليه، خرج الكاتب كعادته يكذب الجريدة ويطعن فى رئيس تحريرها، مصورًا الأمر على أنه تم حذف فقرات من مقاله دون علمه.
ولأن هويدى يعرف جيدًا ماذا يريد، حاول توريط عمادالدين حسين، عندما كتب مقالًا يعلق به على الوقائع التى نشرها عماد، وختمه بقوله «إن عنوان مقال رئيس تحرير الجريدة وضعه فى مواجهة مع الجيش وهو ما يجعل القارئ يعتقد أنه ضد الجيش، رغم أن كلامه كان فى اتجاه مختلف».
الخلاف كان على المعلومات، لكن هويدى أراد أن يضع نفسه فى خانة البطل الذى يتعرض للقهر من رئيس تحرير يحجر على رأيه، وهو ما جعل عماد يقطع الطريق عليه، عندما كتب مقالًا ردًا على غمز ولمز هويدى، قال فيه «إن خلافه الوحيد مع فهمى هويدى كان بشأن المعلومات الخاطئة التى وردت فى مقاله، وقام بحذفها بعد أن أخبره بذلك، لأنها توقع الجريدة تحت المساءلة القانونية».
موقف مثل هذا كان كفيلًا بجعل فهمى هويدى يظل صامتًا إلى الأبد، فقد سقط قناعه وبارت بضاعته، لكنه وبتبجح ليس غريبًا عليه، واصل كتاباته ونشر مقالاته فى الشروق، حتى وصل إلى الخلاف حول المستحقات المالية، فحاول الضغط ولما فشل قرر أن يجعل من نفسه بطلًا، لكن ولأنه لا شىء فوق هذا التراب لا يرى، فقد رأينا وعرفنا ماذا جرى من هويدى وماذا جرى عليه.
أحيانًا تسأل عن بعض الكتاب والمثقفين والصحفيين والمفكرين: لماذا لا يرحلون إلى قبورهم وهم صامتون؟ وهو السؤال المناسب لوضعية فهمى هويدى تمامًا الآن... كان من المفروض أن يواصل صمته، لأنه عندما تحدث بدت عورته وبانت.
وهنا يمكن أن نمسك بالخيط الثالث، فالرجل الذى نعرف انتماءه ومحطات انتقاله بين حلفاء المصالح، يحاول أن يبدو حزينًا على ما جرى لمصر، الذى استخدم تعبيرًا قاله أحد أصدقائه، من أن هذا البلد يحفر تحت القاع، وهو تعبير يمكن أن يروق لهؤلاء الذين يريدون مصادرة الوطن لمصالحهم وأفكارهم الخاصة، ناكرين ومنكرين على أبنائه ما فعلوه فى ٣٠ يونيو من طرد الجماعة الإرهابية- التى لا يزال هويدى يأنس إليها- والانحياز إلى الوطن وحده بعيدًا عن أفكار الجماعة المارقة ومصالحها وانحيازاتها ومؤامراتها أيضًا.. وهى أشياء يعرفها هويدى جيدًا عن رفاقه الذين كانوا ولا يزالون الأقرب إليه من أبناء شعبه.
يمكنك اعتبار المواجهة الآن مع فهمى هويدى مواجهة مع ميت بالفعل، فقد ظل بعيدًا عن الأحداث، لا كتب ولا تحدث لعامين تقريبًا، ثم إنه عندما تحدث الآن لم يقل شيئًا مزعجًا أو مقلقًا، سأقول لك إن فلسفة «الحيات» التى يعمل بها هويدى طوال عمره تقول إنه لن يتوقف، يريد أن يعود إلى المسرح من جديد، يقول لآخرين يعرفهم جيدًا من خلال حواره القصير هذا إنه هنا، على استعداد لأن يتحدث ويقول ويضع خدماته مرة أخرى تحت أقدام من يدفع له.
لقد بدا هويدى وكأنه يريد أن يعود إلى سيرته الأولى.
تلك السيرة التى كان يروق له فيها أنه بطل، ومن سواه صغار وأقزام، رغم أنه فعليًا الآن ليس سوى قزم، يريد أن يقفز من جديد إلى دائرة الضوء.
تلك السيرة التى كانت خادعة تقوم على الزيف والزور والالتواء والالتفاف حول الحقائق.
لقد خدع هويدى بما قاله وكتبه كثيرين، ولا نريد لأحد أن ينخدع به من جديد، فكان ضروريًا أن نبدد أكاذيبه وزيف مواقفه، وتهافت منطقه.
فلا هو الصادق حتى نستمع إليه، ولا هو بالمخلص حتى نطمئن لما يقوله، ولا هو بالحريص على مصلحة البلد حتى يقنعنا بما يحاول إيهامنا بأنه صحيح عن أحوال البلد وما يدور فيه.. ولذلك فالأفضل له أن يعود إلى كهفه يواصل فيه ما تبقى من حياته، فهذا الوطن لم يعد فيه مكان للمحتالين، وفهمى هويدى قولًا وفعلًا ليس إلا محتالًا كبيرًا.