رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسايل شاب لا أعرفه فى كأس الأمم


لا أزعم أننى رجل رياضى.. طول عمرى بحلم.. أحلم بأن أكون رياضيًا.. لكن الأمر لا يزيد عن كونه حلمًا.. مثل عشرات الملايين فى بلادى.. أحب الكرة ونجومها.. وبالطبع كانت لنا صولات وجولات أيام الطفولة مع الكرة الشراب، التى كنا نصنعها من بقايا الهدوم ثم نربطها بحبال «التو» بعد لفها كثيرًا.. وأحيانًا كنا نضيف إليها طبقة «البلك» لتعطيها قوة وصلابة.. ولما الدنيا زهزهت شوية أصبحنا نشترى الكور البلاستيك، وهذه كانت أفضل بالنسبة لأهالينا قطعًا.. أسهل فى عملية تقطيعها لميت حتة.
عندما جاء عصر السادات.. عرفنا «الكورة الكفر» على فترات متباعدة.. حيث كنا نقوم بتحويش ثمنها من السنة للسنة.
كان نجوم الثمانينيات هم نجومنا.. غرفنا البسيطة فى بيوتنا الريفية كانت عامرة بصور الخطيب وشحاتة وفاروق جعفر وشطة وطاهر الشيخ.. وكل ما له صلة بالكرة كنا نعشقه من أجل خاطر عيونهم.. حتى «معجون الحلاقة.. إنجرام» كنا نشتريه من أجلهم، ولم تكن قد نبتت لنا لحية بعد.
كان عمنا فهمى عمر.. هو فاكهة كل مساء.. هو الاستديو التحليلى بتاع «أيامنا».. وهو آخر قصتنا مع الكورة وجنونها وعناوينها « الحرّاقة» فى صحيفة المساء.. تلك التى كان يكتبها عمنا حمدى النحاس.
باختصار.. لسنا من لاعبى الكرة.. ولا من أعضاء مجالس إداراتها، ولو فى مركز شباب حتى.. لكننا مثل عشرات الملايين من عشاقها فى بلادنا.. والأهم أننا نعرف أنها ليست «أفيونة» الشعوب فقط.. لكنها أقرب وأسهل الوسائل لتقريب ثقافات الشعوب إلى بعضها البعض.. وأنها باب سحرى تمر منه الميديا إلى عالم الاقتصاد والسياحة والثقافة والسياسة أيضًا.. فالعشرات من قادة العالم كانوا نجومًا فى الرياضة بالأساس.. وكانت الرياضة مدخلهم إلى قلوب الناس وكراسى الحكم.
ونعرف أيضًا أن نجاح « فريق مصرى» فى حصد بطولة لا يعنى فوز لاعبيه فى مباراة، أو عدد من المباريات على فريق منافس.. بل هى قوة ناعمة تعيد «اسمنا» وحقنا الطبيعى فى صدارة القارة الإفريقية إلى ما كانت عليه وتستحقه.
هذه المرة الأمر أكبر من ذلك.. فالذين أرادوا لنا الشتات والتوهة.. يصدمهم حتمًا أن مصر فى أقل من ستة أشهر، استطاعت أن تنجز ما لم تستطع دول كبرى أن تفعله فى سنوات.. مصر رغم كل تلك الحرب الدائرة حولها وفى أعصابها، نهضت وقامت واستعدت وأنجزت وأبهرت العالم الذى كان ينتظر سقوطها.
تلك الرسائل المتعددة التى تخرج من «استاد القاهرة» تتجاوز حدود الكرة.. ومباريات الكرة ولاعبيها ونجومها.. تتجاوز حدود الاستديوهات وبرامج التحليل.. وخناقات الاحتكار.. وقصة الإيريال.. والدش والطبق.
الرسائل كثيرة.. لكننى أتوقف أمام إحداها.. وهو مكسب من وجهة نظرى كبير جدًا.. لقد تم اختيار محمد فضل، وهو لاعب كرة سابق وإدارى شاب.. لم يتجاوز الأربعين بعد.. اختاره المسئولون ليقوم مع فريق شاب من ستة أفراد بتنظيم البطولة.. وقتها خرج كثيرون يسألون عن خبرات محمد فضل، وتشكك الكثيرون فى قدراته.
وتوقع البعض فضائح جمّة.. لكن المصرى الشاب مثله مثل عشرات الملايين من شبابها، فاجأ الجميع بعد صمت طويل ودون ضجيج.. بأنه قادر.. وأنه يعرف وأنه مثل عشرات الملايين من أبنائها حينما تتاح لهم الفرصة للإبداع يبدعون.. عندما نضعهم فى «محك المسئولية» ينجحون.
هذه الرسالة تقول للعالم.. إن مصر ولّدة.. وإنها قادرة- بحكم تكوينها وثرائها الحضارى والإنسانى- فى كل وقت وحين.. وإن شجرتها وشجرات إبداعها لا تتوقف عن «الطرح».
لا أعرف محمد فضل.. كل ما أعرفه عنه أنه من أبناء شبرا.. من ولاد البلد يعنى.. ولا أعرف شيئًا عن معاونيه الشباب وأظنهم مثله.. لكننى أعرف.. أن الإرادة التى قررت ودعمت وساندت، وأن القيادة التى منحت الفرصة للتجربة والابتكار.. قادرة على اكتشاف قدرات أخرى فى مجالات أخرى، فى الثقافة والعلوم والطب والهندسة.
بلدنا كبير.. وعظيم.. ومن حقنا أن نفرح به.. وبكل شبابه أمثال فضل.. ومن حقه علينا أن نثمّن صمته.. وتحمله.. وصبره.. وأن نفرح معه ومع غيره بالنجاح.
مصر كبيرة وعصية على الشتات والتوهة والذوبان.. مصر اللى علمت العالم.. هتفضل تعلم.. وتبنى.. لو كنتم تعلمون.