رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من الذاكرة السوداء لأسوار الاتحادية


فى 20 فبراير 2013، كلفت نيابة مصر الجديدة مباحث القاهرة بالكشف عن هوية المتهمين، الذين ظهروا فى العديد من مقاطع الفيديو يعتدون بالضرب على «مينا فيليب»، مهندس الاتصالات، والسيد «يحيى نجم»، سفير مصر الأسبق لدى دولة فنزويلا، أمام قصر الاتحادية، حيث جرى ذلك أثناء الاشتباكات التى نشبت بين مؤيدى ومعارضى الرئيس فيما سمى حينها «أحداث الاتحادية الأولى».
ذلك بعدما كشفت مقاطع الفيديو، التى عرضتها النيابة على المجنى عليهما، اعتداء مجموعة من الأشخاص بالضرب على مينا فيليب، وسحله على الأرض، وقولهم له: «إنت تبع حمدين والبرادعى؟ إنت واخد كام منهم علشان تخرب البلد؟»، بينما يضربه آخرون بأيديهم وبآلات حادة وغيرها ويمزقون ملابسه.
واستمر الاعتداء عليه لأكثر من نصف الساعة، حتى تمكنت قوة أمنية أخيرًا من اختراق الجموع الملتفة حول المذكور، لتتسلمه الشرطة منهم، كما أظهرت مقاطع الفيديو، التى سجلتها الكاميرات الصحفية وغيرها من المحمولة لدى المواطنين، وشاهدتها النيابة، قيام «7 من مؤيدى محمد مرسى» بالاعتداء بالضرب على السفير يحيى نجم، بالقرب من البوابة الرابعة لقصر الاتحادية، مما أدى إلى إصابته بجروح غائرة وقطعية فى الرأس والوجه، بعدما التف حوله المتهمون واستمروا فى ضربه فى صدره وبطنه وظهره.
وأفادت حينها التحقيقات، التى أجراها المستشار رئيس نيابة مصر الجديدة، بأن فيليب ونجم تعرفا على عدد من المتهمين، الذين ظهروا بشكل واضح وهم يعتدون عليهما، محاولين نزع اعترافات منهما، تفيد بأنهما حصلا على «مبالغ مالية» من قادة «جبهة الإنقاذ»، نظير ارتكاب أعمال تخريبية وقلب نظام الحكم، واقتحام قصر الرئاسة.
من جانبها، توصلت النيابة إلى هوية 2 آخرين من المجنى عليهم، هما: على خير حسن وأحمد أبوالوفا، اللذان ظهرا فى مقاطع الفيديو التى عرضتها النيابة على نجم وفيليب، وقررت النيابة استدعاءهما لسماع أقوالهما، وإطلاعهما على الفيديو الذى يُظهر بوضوح عملية الاعتداء.
كانت نيابة مصر الجديدة، قد استمعت لأقوال مينا فيليب ويحيى نجم، وأطلعتهما على مقاطع الفيديو على مدار 4 ساعات، وحدد المجنى عليهما «6 متهمين» اعتدوا عليهما بالضرب والسحل والتعذيب أمام قصر الاتحادية، بالاشتراك مع آخرين، ولم تظهر مقاطع الفيديو ملامحهم بشكل واضح، كما اتهم المجنى عليهما الرئيس محمد مرسى وتنظيم الإخوان بالتحريض على قتلهما وتعذيبهما، أثناء مشاركتهما فى تظاهرة سلمية، للمطالبة باستكمال مبادئ ثورة 25 يناير.
هذه بعض من السطور الواردة فى تحقيقات النيابة العامة، بتصرف محدود من جانبنا، لكنها طبق الأصل من الأوراق التى أحيلت للقضاء لاحقًا، فيما عرف بقضية «أحداث الاتحادية الأولى»، وهى ذات الأحداث التى جرى خلال التداخل البشرى الكبير أمام أسوار الاتحادية، إطلاق النيران من «طبنجة» تجاه الصحفى «الحسينى أبوضيف»، ليجرى اغتياله برصاصات استهدفت رأسه مباشرة، ليتوفى فور نقله إلى المستشفى متأثرًا بإصابته، التى أثبتها التقرير الطبى بأنها كانت «تهتكًا فى الجمجمة» و«نزيفًا دمويًا غزيرًا»، فضلًا عن اختفاء الكاميرا التى تخص «أبوضيف»، والتى كان قد تمكن بواسطتها من تحديد ملامح الأشخاص المتورطين فى الأحداث، التى كانت تجرى أمام سور قصر الاتحادية، ووثق جرائم من كانوا يخرجون من أبواب القصر لينفذوا عمليات اعتداء بحق المتظاهرين الموجودين بالمكان.
حينها حاولت جماعة الإخوان بداية الترويج بأن «الحسينى أبوضيف» أحد قتلاها، قبل أن يخرج زملاء أبوضيف وأصدقاؤه، ليمطروا وسائل التواصل الاجتماعى والمنصات الإعلامية بوابل من المقاطع المصورة والاستشهادات الحديثة، التى كانت تثبت عداء أبوضيف الواضح والكامل لتنظيم الإخوان، بل واشتراكه فى كل الفعاليات الشعبية والسياسية التى كانت تجرى قبيل واقعة استشهاده، فى العديد من الأماكن بالقاهرة بطبيعة عمله الصحفى بجريدة «الفجر» الأسبوعية، وبحكم انتمائه السياسى للتيار والفكر الناصرى، فما كان من جماعة الإخوان إلا أن ابتلعت تلك الفرية، بعد أيام من ترديدها فى محاولة لصرف الأنظار عن تورطها الفاضح والمؤكد، فى تنفيذ عملية الاغتيال.
بعد ساعات من تلك الأحداث، كان هناك موقف وطنى شريف، أبطاله رجال النيابة العامة من «نيابات شرق القاهرة»، من سطور مذكرة المستشار «مصطفى خاطر» المحامى العام لنيابات شرق القاهرة، والتى تسببت فى نقله حينها إلى نيابات بنى سويف، ننقل بعض مما جاء فيها: «أثناء إجراء المعاينة، تلقيت اتصالًا هاتفيًا من النائب العام، يستفسر فيه عن مجريات التحقيق وموقف المتهمين، وأبلغنا سيادته بأنه كان قد تم ضبط نحو 90 متهمًا على ذمة الأحداث، فأخبرنى بأن هناك 49 بلطجيًا تم ضبطهم، وأنهم محتجزون عند «البوابة رقم 4» الخاصة برئاسة الجمهورية فى قصر الاتحادية، وأنه تم التصديق بمعرفة سيادته مع السفير «رفاعة الطهطاوى»، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، لكى تتوجه النيابة لقصر الرئاسة لتسلم هؤلاء المتهمين، وأفاد سيادته بأنه يتعين اتخاذ قرار حاسم بشأن هؤلاء المتهمين، خصوصًا المجموعة التى تم ضبطها فى قصر الاتحادية.
توجهنا إلى قصر الاتحادية وتقابلنا مع السيد رئيس الديوان، وقدم لنا سيادته مذكرة مفادها ضبط «49 متهمًا» بمعرفة المتظاهرين، ومعهم سلاح نارى «فرد خرطوش»، وبعض الطلقات وبعض الأسلحة البيضاء، وضبطت أيضًا بمعرفة المتظاهرين، وقد قمنا بمناظرة هؤلاء المتهمين ليتبين لنا أن جميعهم قد تعرض للضرب المبرح، ويوجد فى كل منهم إصابات تم إثباتها فى حينه، بموجب محضر إجراءات وبموجب تقارير طبية، وأفاد كل منهم بأن من تولى ضبطهم هم مجموعة تنتمى لـ«جماعة الإخوان»، وأنهم تعرضوا للضرب والتعذيب للاعتراف بأنهم مأجورون بأحداث أعمال شغب لقاء مبالغ نقدية. وأثناء التحقيقات أذاع التليفزيون المصرى، خطاب السيد الرئيس باعتراف المتهمين بتلقيهم أموالًا، وأن هناك أدلة على ذلك، وهو ما لم يثبت فى التحقيقات. وبعد الانتهاء من التحقيقات، تم عرض الأمر على السيد المستشار رئيس المكتب الفنى للنائب العام، الذى أفاد بأن النائب العام يرغب فى إصدار قرار حاسم فى شأن هؤلاء المتهمين، فأبلغنا سيادته بأنه لا توجد أى أدلة من شأنها إصدار قرار حبس للمتهمين، وأن آراء جميع أعضاء فريق التحقيق قد اتفقت على إخلاء سبيل جميع المتهمين».
هذا جزء محدود فقط، مما كان يجرى على أسوار قصر الاتحادية، وبداخل غرفة انقلبت لسلخانات تعذيب حقيقية، وثقها رجال النيابة العامة الشرفاء فى أوراقهم، وقت أن كان يشغل منصب النائب العام، طلعت عبدالله، الذى عينه محمد مرسى قبل نحو شهر من تلك الوقائع. هذا بعض مما كان يجرى فى كواليس الحكم البائس، الذى كان يمارس الانتهاك الفاضح بكل الأعراف والأخلاقيات والقوانين، أثناء عام من الحكم الذى يوصف زورًا وبهتانًا بالشرعى أو المدنى المنتخب.
ربما يحتاج الكثيرون لتنشيط الذاكرة، حيث بدت باهتة للحد الذى يثير التساؤل عن الإسهام الكبير، الذى بدأ يتشكل لصناعة «هولوكست» إخوانى مزيف، مازلنا شهداء وحاضرين بالآلاف من الوقائع والتفاصيل الأخرى، التى لم يكن فيها الإرهاب الصريح هو بطلها الوحيد، إنما كانت مكونات المشهد بكامله تثير الفزع والغثيان، وإلا لم يكن ملايين المصريين ليخرجوا بهذا الوضوح والإصرار، «يسقط.. يسقط.. حكم المرشد».